top of page
Writer's pictureBHRRES

المعضلة في معضلة العربة

Updated: Apr 2, 2021

هل يمكن للتجارب الفكرية أن تعطي نتائجًا أخلاقية؟


 

للاستماع إلى المقالة:

 

هل تعتبر التجارب الفكرية تجاربًا حقيقيةً فعلًا؟ أم أنها شيءٌ آخر؟ وهل يمكِنُها مساعدتنا على التفكيرِ بشكلٍ سويٍّ فيما يتعلق بالأخلاقياتِ أم لا؟

تُعلِّق الأعمال الفلسفية التحليلية الحديثة آمالها على اكتساب المعرفة من الحالات التخيلية، ابتداءً من المساهماتِ التي قدّمَها بعضُ الفلاسفةِ مثل روبرت نوزيك Robert Nozick وديريك بارفيت Derek Parfit والتي ستترك أثرها المستقبلي لاحقًا، يؤيد هذا العمل استعمال التجارب الفكرية (سيناريوهات نظرية قصيرة صُمِّمتْ للتحري عن وجهةِ نظرٍ تدور حول مبدأ أخلاقي ومحاولة الإقناع بها). غالبًا ما تطرح مثل هكذا سيناريوهات من دون سياق، وغالبًا ما تكون مختلفة بشكل كبير عن السياقات اليومية في الطريقة التي تُصاغ وتمارس بها حالات الوجدان الأخلاقية. أكثرها شهرةً (أو أسوؤها سمعةً) هي "مشاكل الترولي" (وهي تجاربٌ فكريةٌ تدورُ حول إجازة التسبب بالموت لعددٍ قليلٍ من الناسِ من أجل إنقاذ الأغلبية من الترولي (أو القطار). لكن هناك عشراتُ الآلافِ من هذه التجارب التي تحوي بعضها بين صفحاتها ما يقارب عشر قضايا منفصلة.


بما أنَّ التجارب الفكرية قديمةٌ قِدَمَ الفلسفةِ نفسها، فإنّ حَمْلَ الموضوع على كاهلها يقوم بتمييزها عن غيرها في الفلسفة الحديثة. حتى عندما تكون السيناريوهات غير واقعية، فمن المعتقد أنَّ الأحكام التي تُطلق عليها تملك مدى واسع من الاستقراءات لما يجب أن يحصل في العالم الواقعي. في حال افتراض أنَّه بإمكانك إثبات نقطة حول مبدأ أخلاقي، وتحتوي هذه النقطة على قضية مصمَّمة بشكل فني لكن غريب، فهذا يدلنا على شيءٍ مهم، العديد من الأشخاص الذين ليسوا بفلاسفة يقفون عند هذا الاقتراح. فالتتأمل قضية"عازف الكمنجة" التي نوقِشَت كثيرًا من قبل جوديث جارفس تومسون Judith Jarvis Thomson’s في مقالته "دفاع الإجهاض defence of abortion" التي نُشرت في عام 1971:


تستيقظ في الصباح لتجد نفسك جنبًا لجنب في السرير مع عازف كمنجة فاقد للوعي. عازف كمنجة مشهور شُخِصَت إصابته بوعكة كلويّة، وعندما راجعَ مجتمعُ محبِّي الموسيقا جميع السجلات الطبية المتوفرة ووجدوا أنك الوحيد الذي لديك زمرة الدمّ المناسبة التي من شأنها أن تساعده، اختطفوك، ووصِّل جهاز الدوران الخاص بالعازف إلى جهاز دورانك منذ ليلة البارحة، لاستعمال كليتيك لتخليص جسده من السموم كما تفعل لنفسك. يخبرك مدير المشفى بالتالي: "انظر، نحن آسفون لما فعله مجتمع محبِّي الموسيقا بكم، لم نكن لنسمح بهذا الفعل لو أننا عرفنا مسبقًا. فصل العازف عنك يعني ملاقاة حتفه. لكن لا تكترث فهذا الأمر لن يدوم لأكثر من تسعة أشهر. وسيكون العازف وقتها قد استعاد عافيته من وعكته الصحّية، ويمكن فصله بأمان عنك."


ينبغي للقراء أن يحكموا بأنَّه بقدر ما يملك العازف الحق في الحياة مثل أيّ شخص آخر، فهو لا يملك حق التصرف بجسد وأعضاء شخص آخر لم يوافِق على هذا الأمر. حتى إن كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لكي يبقى على قيد الحياة. ينبغي لهذا الأمر أن يشير إلى أنَّه حتى لو اعتُرِفَ بحق الحياة للجنين ، فهذا لا يعني أنْ ينطبق نفس الأمر على حقه بامتلاك وسائل النجاة عندما يتعلق الأمر بالاستعمال غير المصرح به لأجساد الآخرين.


من وجهة نظر الفلاسفة فإن النقطة هنا واضحة، حتى وإن كانت وجهة نظر تومسون مثيرة للجدل. حاولتُ في عدد قليل من الحالات أن أستعمل هذه التجربة الفكرية في تدريس الأخلاقيات للأطباء، فوجد أغلبهم أن هذا المثال سيء ومربك. كانت مشكلتهم أنهم يعرفون الكثير. كان المثال بالنسبة لهم غير قابل للتصديق فزيولوجيًا وقانونيًا ويلفّه الغموض وتعتريه الإشكالات في التفاصيل ذات الصلة بما حدث وكيفية حدوثه. (لِماذا يملك مجتمع محبي الموسيقا إمكانية الولوج إلى سجلات طبية خاصّة؟ هل كان من المفترض للعملية أن تجرى في المشفى، أم أنهم يملكون منشأة خاصة بهم لإجراء العملية؟) علاوةً على ذلك فإن الأطباء يجدون هذه التجربة الفكرية غريبة في عوزها التام لبدائل حقيقية من العالم الواقعي، مثل عملية غسيل أو زرع الكلى. نتيجةً لهذا قد يفشل الأطباء الممتازون في رؤية هذا التشبيه في حالة الحمل، علاوةً على أنهم يجدونه مفيدًا لهم في منطقهم الأخلاقي حول الإجهاض.


عندما يواجه الفلاسفة بعض الناس الذين لا "يفهمون" التجربة الفكرية، تسوِّلُ لهم أنفسُهم قولَ أنَّ هؤلاء الناس ليسوا جيدين كفايةً في عزل الأمور ذات الصلة الأخلاقية. من الواضح أن مثل هذه الإجابة تُخاطِر بأن يؤخذ هذا الأمر مقصدًا عليها كونها تخدم نفسها، وتميل لتهميش سؤالٍ مهم: كيف ينبغي لنا أن نحدد ما هي الصفات ذات الصلة الأخلاقية بموقف معين؟ على سبيل المثال، لماذا ينبغي لفيلسوف جالس في كرسي ذي أذرع أن يكون في منصب أفضل لتحديد الصفات ذات الصلة الأخلاقية بقضية "عازف الكمنجة" أكثر من الشخص الذي يتعامل مع آلاف المرضى؟


على الرغم من أنَّ الفلاسفة لا يتكلمون غالبًا عن هذا، إلا أنه من الواضح أنهم يفترضون أنَّ تفسير التجارب الفكرية يجب أن يكون خاضعًا لاتفاقية التأطير الأخلاقي الرسميّة. بعبارة أخرى، تتعلق التجارب بما يتعمّد مؤلفها تحويرها إليه ولا شيء غير هذا، تمامًا مِثل رواية لويس كاروس Lewis Carroll "هامبتي دمبتي" الذي استعمل فيها الكلمات كي تأخذ المعنى التي أراد لها أن تأخذه. لتوضيح الاتفاقيّة الضمنيّة بشكل أكبر، حدد مؤلف التجربة الفكريّة، بحكم التعريف، جميع العناصر الأخلاقية المتعلقة بالقضية.


غالبًا ما يقوم مصممو التجربة الفكرية بمحاولات للاحتيال على المشكلة من خلال صوتٍ رسميٍّ عالِمٍ بكل شيء، يأخذ الأحداث ويربطها بجذورها. إن هذا الصوت قادر على القولِ بشكل واضح ومختصر ما يمكن لكل ممثل لتجربة فكرية أن يفعله، بالإضافة إلى حالتهم النفسية ونواياهم. غالبًا ما سيشترط الصوت الرسمي على أنَّ الخيارات يجب أن تتخذ من قائمة قصيرة معرّفة مسبقًا، مع عدم القدرة على تغيير شروط المعضلة. على سبيل المثال يمكن أن يُقدَّم للقارئ خيارين اثنين فقط كما في معضلة الترولي الكلاسيكية: اسحب العتلة أو لا تسحبها.


كل هذا من شأنه أن يجعل المنطق حول التجارب الفكرية غير شبيه بالمنطق الأخلاقي حول قضايا الحياة الواقعية. في الحياة الواقعية تكون المهارات والإبداع في مجال التفكير الأخلاقي المتعلق بالقضايا المعقدة على خطى الطريق السليم لتأطير المشكلة. يقوم المفكِّرون الأخلاقيون أصحاب الخيال الواسع بالنظر لما بعد القائمة القصيرة ذات الاحتمالات البديهية كي يكتشفوا مقاربات جديدة تسمح للقيم المتنافسة بين بعضها أن تنسجم من جديد. كلما زادت المعرفة بالسياق والخبرة التي يملكها المفكر، كلما زادت عليه مسؤولية التوصل لقرار حكيم.


تعمل التجارب الفكرية في أفضل أداء لها عندما ينوي قُراؤها التماشي مع الشروط الاستبدادية لمؤلِفِها. كلما عظمت الخبرة السياقيّة للفرد، كلما زاد احتمال أن يعاني الشخص من مشكلة "المعرفة المفرطة" عندما يواجه الحقائق والظروف المشروطة للتجارب الفكرية التي تبدو منطقية قليلًا عند الأخذ بعين الاعتبار خبرة الشخص المتعلقة بمجال معين. لذلك بينما يميل الفلاسفة لافتراض أنهم يتخذون خيارات أخلاقية أكثر وضوحًا وصرامةً عند نقلهم لمنطقة مجرّدة وخالية من السياق، من المرجح أنَّ هكذا مكاسب أكثر عرضةً لأن تُتَلقّى على هيئة خسارات في الشّفافية من قِبل الذين يملكون خبرة ذات صلة ظرفية.


من السهل لمثل هذه الاختلافات في المنظور أن تتحول إلى مواجهات. تظهر الطرق المسدودة في المكان الذي يقوم فيه كل طرف باستعمال مبادئ مختلفة للمنطق الحَسَنْ، وينقد الآخر بسبب فشله في تحقيق المبادئ التي ليس ساعيًا لتحقيقها بالأصل. في حال الرغبة بتحقيق تقدم، فمن المفيد أن يفهم لماذا يعقتد هؤلاء الذين تختلف بالرأي معهم أنَّ وجهات نظرهم مُفحِمة. ماذا ينبغي على العالم أن يصبح كي تغدو التجارب الفكرية طريقة سليمة لتحقيق التقدم في مجال الأخلاقيات؟ سأقوم بمناقشة اقتراحين اثنين: الأول أنَّ التجربة الفكرية ما هي إلا نوع من التجارب العلميّة، والثانية أنها رغبة المخيِّلة. كما سنرى في كلا القراءتين أنّ التجارب الفكرية قابلة للخطأ بشدة، ويجب أن نكون يقظين عند استعمالها لتزودينا بأفكار حول المشاكل الأخلاقية في العالم الواقعي.


يعتقد بعض الفلاسفة أنَّ التجارب الفكرية الأخلاقية، إما أن تكون تجارب علميّة أو أن تكون ذات صلة قوية بالتجارب العلميّة. تبعًا لوجهة النظر هذه، يمكن للتجارب الفكرية شأنها شأن التجارب الأخرى أن تسمح للمعرفة أن تُبنى عندما تكون ذات تصميمٍ حَسَنْ، وذلك بواسطة اختبار للفرضيات يتصف بالصرمة وعدم الانحياز. تمامًا كما هو الحال في التجارب العشوائية المضبوطة التي تختبر فيها عقاقير جديدة، إنَّ الظروف وأنواع الرقابة في التجارب الفكرية قد تكون مواتية لجعل الموقف غير مشابه بتاتًا للمواقف اليومية، لكن هذا الأمر يعتبر فضيلة بدلًا من خطيئة بالقدر الذي يسمح باختبار النظريات الأخلاقية بشكل بريء وصارم.


في حال كانت التجارب حقًا تجارب بالمعنى الحرفي، فهذا يساعد على تفسير كيف أنّه يمكن لهم أن يقدموا أفكارًا عن ماهية العالم. لكن هذا سيعني أيضًا أنَّ التجارب الفكرية قد تَرِث التحديات المنهجية التي تصيب التجارب بشكل أكبر على العموم، هذا يُعرف بالصلاحية الداخلية والخارجية. إنَّ الصلاحية الداخلية مرتبطة بالمدى الذي تنجح فيه التجربة بتقديم اختبار خالٍ من التحيز لمتغير أو نظرية في موضع سؤال. ترتبط الصلاحية الخارجية إلى المدى الذي تترجم فيه النتائج في بيئة مضبوطة إلى سياقات أخرى، وتحديدًا إلى السياق الخاص بنا. تعتبر الصلاحية الخارجية تحديًا رئيسيًا، فالخصائص التي تجعل من بيئة معينة مضبوطةً ومناسبةً للحصول على الصلاحية الداخلية غالبًا ما تجعلها مختلفة على نحو مثير للمشاكل مقارنةً بالبيئات غير المضبوطة التي تستوجب القيام بالتدخلات عليها.


هناك تحديات كبيرة مع كِلا الصلاحيَّتين الداخلية والخارجية للتجارب الفكرية. من المفيد مقارنة نوع الرعاية التي يصمم بها الباحثون الطبيون والأخصائيون النفسيون التجارب (تشمل التصريح بعمل الاستبانات والتعمية المزدوجة للتجارب والتحكم بالدواء الوهمي والحسابات الأسِّيّة لتحديد حجم المجموعة المطلوبة... إلخ) مع المقاربة التقليدية التي يتَّبعها الفلاسفة. كان هناك حتى وقت ليس ببعيد محاولة منهجية صغيرة ضمن الأخلاقيات المعيارية لاختبار التنوع لصياغات مختلفة في التجارب الفكرية، أو للتفكير بآثار التأطير أو حجوم العينة، أو بالمدى الذي ينبغي فيه لنتائج التجارب الفكرية أن تكون شاملة أو أن تتأثر بمتغيرات مثل الجنس أو المكانة أو الثقافة. كان هناك غموض مركزي حول فيما إذا كان القراء المقترحون للتجارب الفكرية الأخلاقية يجب أن يكونوا مجرد أيَّ شخص أم فلاسفة آخرين، ونتيجةً لذلك كان هناك غموض حول إذا ما كان ينبغي للأحكام الناتجة أن تكون أحكام خبراء أم أحكام أناس عاديين. الغالبية العظمى من التجارب الفكرية الأخلاقية في الواقع تقتصر على المجلات الأكاديمية، وتُختبر بشكل غير رسمي فقط على الفلاسفة الآخرين، الحقيقة أنهم يُختبرون فقط على الأشخاص ذوي الخبرة في العينات الممثلة أو ذوي الخبرة في السياقات التي تتضمّنها التجارب الفكرية كي تصفها.


إن مشاكل الصلاحية الخارجية أكبر حتى من ذلك. السؤال الجوهري هو: حتى مع افتراض أن التجربة الفكرية تملك صلاحية داخلية، ما هي تبِعات صلاحية الأحكام في العالم على التجربة الفكرية لحالات أخرى؟ إذا كنت تتفق مع سماح سحب العتلة في مشكلة الترولي الأصلية، الأمر الذي سيتسبب بإنقاذ خمسة أشخاص ومقتل شخص واحد، فهناك مجموعة من الاستنتاجات التي قد تظهر. بأسوأ الأحوال، يمكننا أن نقبل بأن هناك آثار مترتبة على النتيجة فقط في حالة القضايا التي تتضمن السكك الحديدية التي تحوي على مقاطع خاصة منها لتبديل الخطوط. على النهاية المقابلة من التصنيف، قد يمكننا القبول بأن النتيجة تملك آثار مترتبة بعيدة المدى على السماح بالتسبب بالأذى لأحد ما في سياق محاولة منع الأذى عن عدد أكبر من الأشخاص الآخرين. إن الأحكام القائمة ضمن العرف المتبع في القانون الشائع تواجه سؤال ذو بنية مشابهة عند اتخاذ القرار. يجب أن يبرروا بالمنطق كي يدعموا قرارهم، الذي يمكن لبعض أجزائه أن يُستخلص منها ما يسمى ratio decidendi (سبب القرار) من قِبل قضاة مستقبليين. تمنح الـ ratio القضاة أفضل تقدير ممكن لعمق المعضلة السابقة الذي تحدده الحالة.


كلما اتسع نطاق السوابق القضائية التي يمكن للتجارب الفكرية تحديدها، كلما زدات قوتها من أجل التفكير الأخلاقي. بمالقابل إنَّ سعة السوابق القضائية التي تحددها التجارب الفكرية تعتمد على درجة التوضع الصحيح للضوابط في مكانها في التجارب الفكرية، مما يسمح أن تُختبر فرضية معينة بشكل سليم أو أن تدل على أو تتوافق مع الحُجّة الأوسع الخاصة بالمبدأ الأخلاقي الناتج. هذا الأمر غير بديهي، وهو بحد ذاته موضوع للخصام المتكرر.

ليس من الصعب التفكير بزوج من القضايا التي يكون فيها القتل والترك للموت غير متساويين أخلاقيًا.

يعتقد بعض الفلاسفة أنَّ التجارب الفكرية المضبوطة بشكل جيد تسمح باستخلاص مدى واسع من التبعات. قام الفيلسوف جايمس رايتشل James Rachels في عام 1975 بعمل زوج من القضايا المتشابهة تتضمن نيّة نسبية لقتل ابن عمه الأصغر من أجل حيازة الحق في الميراث، من أجل أن يثبت أنّه لا وجود لفرق جوهري بين القتل والترك للموت.


في حالة رايتشل الأولى، يقتل سميث ابن عمه عن طريق إغراقه في الحمام، ويجعلها تبدو كما لو كانت حادثة. بينما ينوي جونز إغراق ابن عمه وجعلها تبدو كما لو كانت حادثة، يتسلل إلى الحمام، لكن تزل قدم الولد مصادفةً ويرتطم رأسه ثم يسقط على وجهه في الماء ويغرق من تلقاء نفسه. يدعي رايتشل أنَّ قتل ابن العم وتركه للموت متماثلين من الناحية الأخلاقية، لذلك لا يوجد فرق أخلاقي في هاتين الحالتين المتشابهتين بين القتل والترك للموت، وبالتالي لا وجود لفرق جوهري بين الاثنين. يجب أن ينطبق هذا الأمر أيضًا على العالم ذي الخيارات الأخلاقية الحقيقية وعلى هؤلاء الذين قد يؤثرون على السياسة. لكن هل تنطبق حقًا؟


يحدث الآن تخاصم على نطاق واسع أنّ مثل هذه العوائق (من تجربة فكرية مبسطة إلى موقف حياتي واقعي) غير آمنة. سيختلف السياق أحيانًأ أو غالبًا، ولا يوجد طريقة خوارزمية لتحديد ماهية هذا الاختلاف مسبقًا. على سبيل المثال، ليس من الصعب التفكير بزوج من القضايا المتطابقة حيث يكون فيها القتل والترك للموت غير متساويين أخلاقيًا. فلو كان السياق يحتوي على قاتل مأجور كان يستعد لقتل الهدف في الخفاء، ثم توفي الهدف من جراء توقف القلب وبقي القاتل المأجور بعيدًا عن الأنظار، سيكون القتل والترك للموت في هذه الحالة بعيدان كل البعد عن كونهما بنفس القدر من السوء.


إن السؤال الأعمق فيما يخص الصلاحية الخارجية هو إذا ما كانت التجارب الفكرية تعطي نظرة ثاقبة حول صورة وحيدة ثابتة يمكن إعادة بنائها بالتدريج، أو إذا ما كانت التجارب الفكرية المصمّمة بشكل جيد توحي بشيءٍ أكثر تجزئة وأكثر قابلية للتغيير والجمع. تختلف المجتمعات بشكل كبير في المزايا، مثل الثراء وعدم التساوي وعدد السكان والتنوع العرقي واللغوي والديني والتطور التكنولوجي والبنية الاقتصادية وسهولة التواصل والسفر والقدرة على جباية الضرائب والحفاظ على النظام من دون استخدام العنف. علاوةً على ذلك فإن المجتمعات في تبدل مستمر- الذي يكون سريعًا أحيانًا- بسبب المتغيرات البنيوية. على سبيل المثال، أثناء عمليات تطور الصناعة أو الانتقال بعيدًا عن الشيوعية. أثبت تفشي وباء COVID-19 بوضوح كيف أنَّ الأعراف والبنى الاجتماعية أكثر مرونة مما كنا نتصور.


لا يمكن تصديق أن وصفات السياسة الفعلية المُثلى جميعها متشابهة، بغض النظر عن السياق المجتمعي. على الرغم من تنوع تعدد الأبعاد فليس واضحًا فيما إذا كان من الأفضل التشبث بالإيمان بأنَّ هناك مبادئ عالمية لا تتغير تنتظر اكتشافها، أم أنّه من الأفضل البدء بافتراض أن المبادئ الأخلاقية تنبثق من محاولات حل المشاكل في العيش سويّة، ويجب افتراض أنّه على الأقل بطريقة ما سيكون هذا الإيمان محلّي وقابل للتغير عند تغير الظروف. أحد أسباب الشك بأن المبادئ الأخلاقية الصحيحة لا تتغير هو أن العديد من الأسئلة الأخلاقية التي تبدو حيوية هي حديثة بالتأكيد، وكانت بالكاد مفهومة لأشخاص عاشوا قبل 100 سنةٍ مضت (أسئلة مثل مسؤولية الشخص لمنع حدوث التغير المناخي والتعريف الذاتي للجنس وطبيعة صفة الموثوقية في ظل الرقابة الرأس مالية والحكم على اتخاذ القرار المؤتمت –الأوتوماتيكي- المستند إلى الذكاء الصناعي).


لذلك يرغب العديد من الفلاسفة في قول أنَّ المبادئ الأخلاقية السليمة لا تتغير. وحتى إن كان هذا الأمر صحيحًا، فأنا أشك بأن المبادئ تكون موضّحة بشكل كافٍ كي تزود بنصائح مفيدة، والعمل الحقيقي للتفكير الأخلاقي سيكون في تفسير أو توضيح هذه المبادئ. قارن قضية تذهب فيها لشخص من أجل النصيحة، ويتضح أنك قد حصلت تمامًا على نفس النصيحة مثل البقية، بغض النظر عن مميزات منصبك.


يمكن لوجهة نظر مختلفة للتجارب الفكرية أن تقلل من قيمة علاقتها بالتجارب العلمية، والاعتراف بأنها (كما يصفها دانيال دينيت Daniel Dennett) "مضخات للحدس": أدوات صممت للإقناع بواسطة اعتبارات تخيّليّة للاحتمالات. إن اعتبار التجارب الفكرية روايات مقنعة لا يلغي وجود مشكلة الصلاحية الخارجية، لكن قد يسمح لنا هذا الأمر بإعادة تأطيرها.

قدم أريستول Aristotle طريقة للتفكير من خلال الخيال وكيف بإمكانه أن يقدم رؤىً أخلاقية، ويجادل بأن الدراما المأساوية أكثر "فلسفية وأكثر جدية من التاريخ"، حيث أنها تتحدث عن المسلّمات، بينما يتحدث التاريخ فقط عن التفاصيل. سيخبرنا التاريخ عن حقيقة ما حدث، لكن هذا الأمر غالبًا غير مرضٍ وعشوائي. إن الحياة كما نعيشها والأحداث كما تتجلى لا تبدو منطقية غالبًا، لكن هذا هو بالتحديد نوع المنطقية والشعور بالحاجة الذي تتردد عليه القصص عالميًا، ويُشتق من هذا الأمر البناء النسبي. يميل المسرحيون والروائيون لتلخيص وترك بعض العناصر غير المتعلقة بنوع الروايات التي يرغبون بإخبارها، كما زعم المؤلف إيريس مردوخ في عام 1970، عندما يعمل الخيال جيدًا:


نحن نتعامل مع صورة صادقة لوضع البشر بشكلٍ يمكن تأمله بثبات، وهذا هو حقًا السياق الوحيد على الإطلاق الذي يمكن لكثيرٍ منّا تأمله فقط.


إنَّ فكرة أنَّ التخيلات يمكن أن تقدم رؤىً أخلاقية قد تبدو صحيحة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها تفعل الأمر بطريقة يمكن الوثوق بها أو بطريقة تسمح للرؤى الأخلاقية أن تترجم بسهولة من سياق لآخر. هناك سؤال مهم هو: ما هي العلاقة بين القصة المروية بشكل جيد وبين القصة الصحيحة أو التي تُزوِّد برؤية واضحة أخلاقيًا. يناقش كاتب السيناريو ويليام غولدمان William Goldman في "مغامرات في تجارة شاشة السينما 1983" كيف يمكن للشخص أن يقارب كتابة فلم يتوجب فيه على الشخصية الرئيسية أن تدخل نفس الغرفة التي فيها أشهر امرأة في العالم. لربما تكتبه مثله مثل أي فلم سرقات كلاسيكي، حيث خُصِصَ النصف الأول للعقل المدبر ليبتكر الخطة ويشكل الفريق، لا يوجد شك أنه سيتضمن محتال واثق وخبير إلكترونيات كي يتغلب على أنظمة الأمن وسائق للهروب. النصف الثاني من الفلم سيظهر اكتشاف الخطة وأخذ الأشياء لمنحى خاطئ، ومن ثم عمل التعديلات الضرورية.

إن الطريقة التي يُقدِم فيها الخيالُ الأشياءَ غالبًا ما تكون مبسطة ومحرّفة.

يقارن غولدمان تاليًا هذه الفكرة بواقع أنَّ مايكل فاغان Michael Fagan قد دخل غرفة نوم الملكة في عام 1982. قفز الرجل من فوق سياج القصر ومشى من خلال مجموعة الأختام الملكية (بسبب سلسلة من الحوادث والموظفين الذي فشلوا في ملاحظة الإنذارات) التي أودته بالنهاية إلى مجرى التصريف، حيث خلع الصندل والجوارب كي يتسلق من خلال نافذة مفتوحة. حين أصبح فاغان داخل القصر، تجوّل في المكان دون أي عوائق لمدة 15 دقيقة حافي القدمين، قبل أن يجد نفسه في غرفة نوم الملكة. لم يُعرَف حتى اليوم لماذا أراد فعل هذا. كما وصفها غولدمان: "قد يكون صحيحًا كما يبدو، إذا قمت بإسقاطها على مسرحية، لربما تجد نفسك مرميًا خارجًا من دون مراسم مثل كاتب خيال مطروق للغاية".


سواءً في العمل البوليسي أو طب الطوارئ أو الحرب، إنَّ الأشياء التي تقدم في الخيال غالبًا ما تكون مبسطة ومحرّفة إلى درجةِ أنْ يصبح من المزعج مشاهدتها، في حال كانت الدراما تركز على مجال تخصصك. على سبيل المثال إنَّ الإنعاش (CPR) أكثر احتمالًا للنجاح في دراما التلفاز منه في الحياة الواقعية. وجدت عالمة الصحة العامة جاكلين بورتانوفا Jaclyn Portanova وزملاؤها في عام 2015 أنَّ ما يقارب 70% من محاولات الـ CPR في دراما التلفاز تُكلل بالنجاح، ويخرج 50% من المرضى الناجين. في الحياة الواقعية تكون نسبة التخريج الناجح بعد الـ CPR في المستشفيات الأميريكية 25%. لذلك إنَّ استعمال الخيال على أنه وسيلة لعكس الأخلاقيات (سواءً في التجارب الفكرية أو في الروايات) سيميل لطرح أسئلة الخبرة نفسها والاقتباسات و"المعرفة المفرطة" التي نظرنا بأمرها سابقًا عند مناقشة عازف الكمنجة الخاص بتومسون.


من بعض النواحي، هذا النقد قديمٌ قِدَمَ انعكاس الفلسفة على الفن. احتجَّ أفلاطون في كتابه Republic أنَّ الشعراء لم يعرفوا شيئًا عن الأشياء التي كتبوا عنها، سواءً الحرب أم صناعة الأحذية، لكنهم قدموا صورًا قد يجدها آخرون من نفس درجة الجهل مقنعة. يمكن أن يُطبق النقد ليس على دراما التلفاز وحسب، بل على التجارب الفكرية أيضًا.


بالمجمل، إنَّ التجارب الفكرية الأخلاقية على أفضل تقدير طرق مرنة لبناء نماذج مبسطة ترتبط بشكل ناقص بالعالم الذي نعاصره اليوم، ويمكن أن تكون مضلِّلة بقدر ما هي موجِّهة. هل يجب علينا التخلي عن استعمالها مصدرًا للرؤى الأخلاقية؟


يتطلب التفكير المسؤول معايرة مستويات مصداقيتنا نسبةً إلى مصداقية أدواتنا الذهنية. من الواضح أنَّ التجارب الفكرية الأخلاقية ليست بأدوات موثوقة خصوصًا لهذا الأمر. لكن هذا لا يعني أننا نملك أدوات أخرى أكثر مصداقية. إنَّ "المنطق السليم" ما قبل النظري الأخلاقي عُرضة للتحريف الذي يسببه التحيز والسلطة وعوامل كثيرة أخرى، والسبب بأننا نتوجه للأخلاقيات الفلسفية بالمقام الأول هو عدم وضوح طريقة حل المسؤوليات الأخلاقية المتنازعة، التي تظهر على مستوى ما قبل نظري. إنَّ التفكير الأخلاقي صعب، وحتى أفضل أدواتنا التي تعمل على هذا الموضوع ليست بتلك الجودة. يجب أن يكون الشعار هو التواضع.



 

المصدر:

What is the problem with ethical trolley problems? | Aeon Essays

 

ترجمة:

محمد مهروسة


مراجعة وتدقيق:

فاطمة راشد

244 views1 comment

1 Comment


ameera181098
Dec 27, 2021

موضوع مثير للاهتمام

Like
bottom of page