top of page
Writer's pictureBHRRES

فائدة المعرفة عديمة الفائدة

Updated: Apr 2, 2021



 

للاستماع إلى المقالة:

 

I المقال رقم


في عالمٍ غارقٍ في الكراهية اللامنطقية التي تهدد الحضارة نفسها، أليست بحقيقةٍ غريبةٍ أن يكون هناك رجالٌ ونساءٌ وكبارٌ وصغارٌ يخرجون أنفسهم بشكلٍ كلّيٍ او جزئيٍ من تيار غضب الحياة اليومية ليكرسوا أنفسهم لزراعة الجمال وتوسيع المعارف وعلاج الأمراض وتخفيف المعاناة، كما لو أن المتعصبين لم يشاركوا بالتزامن مع ذلك في نشر الألم والقبح والمعاناة؟ كان العالم مكانًا مؤسفًا ومضطربًا دومًا، لكن الشعراء والفنانين و العلماء قد تجاهلوا العوامل التي كانت من شأنها أن تشل حركتهم لو أنهم أصغوا إليها.


إنَّ الحياة من وجهة نظرٍ عمليةٍ وفكريةٍ وروحيةٍ نشاطٌ عديم الفائدة، ينغمس فيه البشر لأنهم يسعون لتحصيل رضىً أكبر من ما يمكن لأنفسهم تحصيله. سأركز اهتمامي في هذه المقالة على السؤال عن المدى الذي يُثبِت فيه السعي وراء هذا الرضا عديم الفائدة بشكلٍ غيرِ متوقعٍ المصدر الذي وُلِدت منه المنفعة التي لم يحلم بها أحد.


نسمع هذه العبارة التالية وهي تقال بتكرارٍ مرهقٍ أنَّ عصرنا مادي، ويجب أن تكون المشغلة الأساسية له هو التوزيع الأوسع للسلع المادية والفرص الدنيوية. إنَّ الصرخة المبررة لأولئك الذين لم يرتكبوا خطًأ محرومةٌ من الفرصةِ والحصةِ العادلةِ من السلع الدنيويةوبالتالي يتحول عددٌ متزايدٌ من الطلاب من الدراسات التي رغبها آباؤهم إلى الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللّتي لا تقل أهميةً وإلحاحًا عن سابقتها.


ليس لدي خلافٌ مع هذه النزعة. إنَّ العالمَ الذي نعيشُ فيه هو العالم الوحيد الذي يمكن لحواسنا أن تشهد بوجوده . في حال لم يتم جعل العالم أفضل وأكثر إنصافًا، سيستمر الملايين في الذهاب إلى قبورهم صامتين وحزينين ومرهقين. لقد قضيت شخصيًا سنينًا عديدةً وأنا أتوسل لتصبح مدارسنا أكثر وعيًا للعالم المقدَّرِ فيه لتلاميذها وطلابها أن يقضوا حياتهم.


أتساءل أحيانًا الآن هل أصبح هذا التيار قويًا أكثر من اللازم؟ وهل هناك فرصةٌ كافيةٌ لحياةٍ كاملةٍ إذا تمكّن العالم من التخلص من بعض الأشياء عديمة الفائدة التي تعطيه معنىً روحيًا، بعبارةٍ أخرى هل مفهومنا لما هو مفيدٌ قد أصبح ضيقًا جدًا بحيث لا يناسب كفايةً الهيام والإمكانيات المتقلبة للروح البشرية.


يمكننا معاينة هذا السؤال من وجهتي نظر: وجهة نظرٍ علميةٍ ووجهة نظرٍ إنسانيةٍ أو روحيةٍ. دعنا نتناول العلمية أولًا.


أتذكر محادثةً أجريتها منذ سنين مضت مع السيد جورج إيستمان George Eastman حول موضوع الاستخدام. إنَّ السيد إيستمان رجلٌ حكيمٌ ولبقٌ وصاحب نظرةٍ بعيدةٍ ويتمتع بذوقٍ في الفن و الموسيقى، كان يقول لي أنه كان من المقدر له أن يكرس ثروته الهائلة لتعزيز التعليم في المواضيع المفيدة. لقد تجرأت على سؤاله عمن يعتبره العامل الأكثر فائدةً في العلم في العالم . فأجاب على الفور "ماركوني Marconi." ففاجئته بقول "أيًّا كانت المتعة التي نستمدها من الراديو أو مهما أضاف اللاسلكي أو الراديو إلى الحياة البشرية، فإن حصة ماركوني عمليًا لا تكاد تذكر."

لن أنسى استغرابه بهذه المناسبة. طلب مني أن أشرح موقفي. فأجبته إلى حد ما على النحو التالي: "سيد إيستمان، إن ماركوني لا مفر منه. إن الفضل الحقيقي لكل ما تم التوصل إليه في مجال اللاسلكي يعود (بقدر ما يمكن لأي شخص حيازة هذا الفضل الجوهري) للأستاذ كلارك ماكسويل Clerk Maxwell، الذي قام في عام 1865 بإجراء عملياتٍ حسابيةٍ متقدمةٍ وصعبة الفهم في مجال المغناطيس والكهرباء.


ماكسويل أعاد طرح معادلاته المجردة في أطروحة نشرت عام 1873. في اللقاء اللاحق بأستاذ الجعية البريطانية ه.ج.س سميث H. J. S. Smith القادم من أوكسفورد Oxford، صرح بأنه ’لا يمكن لأي عالم رياضياتٍ أن يتصفح خلال صفحات هذه المجلدات دون أن يدرك أنها تحتوي على نظريةٍ أضافت كثيرًا إلى أساليب ومصادر الرياضيات الصرفة.‘


استكملت الاكتشافات الأخرى عمل ماكسويل النظري خلال السنوات الخمس عشر القادمة. تم أخيرًا حل المعضلات العلمية المتبقية (التقاط وإثبات وجود الموجات الكهرومغناطيسية electromagnetic waves الحاملة للموجات اللاسلكية wireless signals) في عامي 1887 و1888 من قبل هينريش هيرتز Heinrich Hertz، وهو موظفٌ في مختبر هيلمهولتز Helmholtz في بيرلين Berlin. لم يقلق ماكسويل ولا هيرتز حول فائدة عملهم، ولم تتراود لأذهانهم هكذا فكرةٍ من قبل. لم يكن لديهم هدف عملي. كان المخترع القانوني لما سبق هو ماكروني بالتأكيد، لكن ماذا اخترع ماكروني تحديدًا؟ قام بكل بساطة بعمل التفاصيل التقنية النهائية، فحصل على جهاز الاستقبال المدعو كوهيرير الذي انتشر عالميًا."

لم يتمكن هيرتز وماكسويل من اختراع أيِّ شيءٍ، لكن الفضل كان يعود لعملهم النظري غير النافع الذي تم الاستيلاء عليه من قبل فنّيٍّ ذكيٍّ قام بصنع وسائل جديدةٍ للتواصل وللخدمات وللترفيه التي كانت جدارة مخترعيها ضئيلةً نسبيًا، لكنهم اكتسبوا من خلالها الشهرة والملايين. من هم الرجال النافعون؟ ليس ماكروني، بل كليرك ماكسويل وهاينريش هيرتز. كان ماكسويل وهيرتز عباقرةً لكن لم تهمهم فكرة الاستخدام. بينما كان ماكروني مخترعًا ذكيًا ولم يكن في ذهنه إلا فكرة الاستخدام.

تذكّر السيد إيستمان اسم هيرتز من الموجات الهيرتزية Hertzian waves، واقترحت عليه أن يسأل فيزيائيي جامعة وشستر بدقةٍ عن العمل الذي قام به كل من هيرتز وماكسويل. لكنني قلت شيئًا واحدًا كنت متأكدًا منه بالتحديد ألا وهو أنهم قد أدوا عملهم من دون فكرة الاستخدام، وأنَّ معظم الاكتشافات العلمية العظيمة عبر تاريخ العِلم كله التي أثبتت بشكل قطعي فائدتها للبشرية، كانت قد أنجزت من قبل رجالٍ ونساءٍ كانوا مُسيَّرين بدافع إرضاء فضولهم فقط لا بدافع رغبتهم في أن يكونوا مفيدين.

"فضول؟" سأل السيد أيستمان.

"نعم" أجبته " "لربما الفضول (الذي قد لا يعتبره العمدة أمرًا مفيدًا) هو الصفة المتفردة في التفكير المعاصر. وهو ليس بالأمر الجديد.


يعود تاريخه لغاليليو Galileo وباكون Bacon والسير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton ويجب أن يكون غير مقيدٍ مطلقًا.

يجب أن تكون المؤسسات التعليميَّة مكرسةً لزراعة الفضول، وكلما كانوا أقل تشتتًا بالاعتبارات فورية التطبيق، زاد احتمال مساهمتهم ليس فقط في صلاح البشر بل أيضًا في إرضاء الاهتمامات الفكرية التي لا تقل أهمية عن سابقتها، وهو الأمر الذي يمكن القول عنه أنه أصبح فعلًا الشغف المهيمن على الحياة الفكرية في العصور الحديثة."


II المقال رقم


إن ما هو صحيح فيما يتعلق بأمر هاينرش هيرتز حول عمله بصمتٍ وبشكلٍ غير ملاحظٍ في زاويةٍ في مختبر هيلمهولتز في أواخر سنين القرن التاسع عشر، يمكن أن يقال أيضًا بحق العلماء والرياضيين الذين قدمهم التاريخ على مر القرون التي مضت. نحن نعيش في عالم قد يصبح عاجزًا من دون كهرباء. في حال سُئلنا عن أكبر اكتشافٍ يتمتع بأكثر استعمالٍ فوري وذي مدىً بعيدٍ، لعلنا سنتفق جميعًا على أنها الكهرباء. لكن من الذي قام بالاكتشافات الأساسية التي جعلت من التطور الكهربائي الكلي على مدى أكثر من مئة سنةٍ ممكنًا؟

الجواب مثيرٌ للاهتمام. كان والد مايكل فاراداي Michael Faraday حدّادًا، كان قد تم تدريب مايكل ذات نفسه ليصبح مجلِّدَ كتبٍ. في عام 1812 عندما أتمَّ عامه الحادي والعشرين، قام صديقٌ له بأخذه إلى المعهد الملكي حيث سمع السير همفري ديفيهناك Sir Humphrey Davy وهو يقوم بإلقاء أربعة محاضراتٍ حول مواضيعٍ كيميائيةٍ. قام بكتابةِ ملاحظاتٍ وأرسل نسخةً عنها إلى ديفي Davy. أصبح في السنة التي تليها عام 1813 مساعدًا في مختبر ديفي، حيث عمل على المشكلات الكيميائية.


بعد سنتين قام بمصاحبة ديفي خلال رحلةٍ إلى القارّة. في عام 1825 عندما كان عمره أربعةً وثلاثين عامًا، أصبح مشرفًا على مختبر المعهد الملكي حيث أمضى فيه خمسًا وأربعين سنةً من حياته.

تبدل اهتمام فاراداي سريعًا من الكيمياء إلى الكهرباء والمغناطيسية، التي كرس ما تبقى من حياته لها. قام كل من أورستد Oersted وأمبير Ampère وولاستون Wollaston سابقًا بإنجاز عملٍ مهمٍ في هذا المجال لكنه مليء بالأحاجي في نفس الوقت. تمكن فاراداي من حل الصعوبات التي تركوها وراءهم، وبحلول عام 1841 نجح في مهمة تحريض التيار الكهربائي.


بعد أربع سنوات بدأ عهدٌ جديدٌ في مسيرته المهنية مساوٍ بالأهمية لسابقه وذلك عندما قام باكتشاف أثر المغناطيسية على الضوء المستقطب. قادت اكتشافاته السابقة إلى التطبيقات العملية اللامتناهية التي تمكنت الكهرباء بواسطتها من تخفيف الأعباء وزادت الفرص في الحياة العصرية. آخر اكتشافاته كانت حتى الآن أقل إدرارًا للنتائج العملية.


ما هو الفرق الذي صنعه هذا الأمر لفاراداي؟ لم يكن آخر شخصٍ يتمتع بهذا الطبع، فلم يكن مهتمًا بالاستخدام خلال أي فترة من مسيرته المهنية التي لامثيل لها. كان غارقًا في حلِّ أحاجي الكون، في البداية كانت الأحاجي الكيميائية، وفي الفترات الأخيرة كانت الأحاجي الفيزيائية. لم يعطي لسؤال الاستخدام أهمية على قدر اهتمامه. أيُّ شكٍ بوجود الاستخدام كان ليحدد من فضوله الذي لا يكل. حصل الاستخدام في النهاية، لكنه لم يكن أبدًا معيارًا يمكن أن تخضع له تجاربه المتواصلة.

قد يكون الوقت المناسب في هذا الجو المغلِّفِ لعالمنا اليوم لإثبات حقيقة أن الدور الذي لعبه العلم في صناعة حربٍ كانت أكثر تدميرًا وفظاعًة لم يكن إلا حصيلةً ثانويةً غيرَ واعيةٍ وغيرَ مقصودةٍ للنشاط العلمي. نوه اللورد رايلي Lord Rayleig رئيس الجمعية البريطانية لتقدم العلم British Association for the Advancement of Science في آخر خطاب له كيف أن حماقة الإنسان هي المسؤولة عن الاستعمال المدمِّر للمواد المستخدمة في الحرب الحديثة وليس نية العلماء لهذا الأمر.


أظهرت الدراسة البسيطة لكيمياء مركبات الكربون والتي عادت بنتائج مفيدة لا حصر لها كيف أن تفاعل حمض النتريك مع مواد مثل البنزين والغليسرين والسللوز، إلخ لم يتسبب باستحداث صناعة أصبغة الأنيلين المفيدة وحسب، بل وأيضًا في إنتاج مادة النتروغليسرين التي لها استخداماتها النافعة والضارة.


عندما تناول ألفريد نوبل Alfred Nobel نفس الموضوع لاحقًا أثبت بمزجه للنتروغليسرين مع موادٍ معينةٍ كيف أنه من الممكن صناعة موادٍ متفجرةٍ صلبةٍ وآمنةٍ عند التعامل معها (الديناميت dynamite) مقارنةً مع باقي المواد.


يعزى تقدمنا إلى الديناميت في التنقيب وفي صنع أنفاق السكك الحديدية التي اخترقت حالياً جبال الألب وسلاسل جبليةٍ أخرى، لكن بالتأكيد تم إساءة استخدام الديناميت من قبل السياسيين والجنود. لذلك لم يعد بالإمكان إلقاء اللوم على العلماء مثلما لا يمكن إلقاء اللوم على الهزة الأرضية أو الطوفان. يمكن قول نفس الشيء عن الغاز السام. قُتِل بليني Pliny بسبب استنشاق ثنائي أوكسيد الكبريت في حادثة ثوران بركان فيزوف Vesuvius قبل ألفين سنة مضت. لم يتم استخلاص الكلورين من قبل العلماء لأسباب تتعلق بالحرب، والشيء نفسه لغاز الخردل.


يمكن أن يتم تحديد استعمال هذه المواد في الأمور المفيدة، لكن عندما تم الوصول إلى مرحلة الإتقان في صناعة الطائرة ارتأى البشر ذوو القلوب المسمَّمة والأدمغة الفاسدة إمكانية تحويل الطائرة إلى أداةٍ للدمار، مع أنها اختراعٌ بريءٌ كان نتاج جهدٍ علميٍ طويلٍ ونزيهٍ.

أما في مجال الرياضيات العليا فيمكن الاستشهاد بعدد يكاد لا يحصى من الوقائع. على سبيل المثال العمل الرياضي الأكثر غموضاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان "الهندسة غير الإقليدية Non-Euclidian Geometry." لم يجرؤ مخترعها غاوس Gauss الذي كان يعتبر من قبل معاصريه رياضيًا فذًا على نشر عمله عن "الهندسة غير الإقليدية" لربع قرن. بل في الواقع أن النظرية النسبية بذات نفسها مع كل ما تحمله من تطبيقاتٍ عمليةٍ لا حصر لها كانت لتكون قطعاً مستحيلةً بدون عمل غاوس الذي قام به في جوتنجن Gottingen.

مجدداً إن الذي يعرف حالياً بـ "نظرية المجموعة group theory" كان أمرًا تجريديًا ونظريةً رياضيةً غير قابلةٍ للتطبيق. طُوِرت من قبل أشخاصٍ فضوليين، قادهم فضولهم وعملهم الدؤوب إلى سبلٍ غريبةٍ، ولكن اليوم "نظرية المجموعة" هي أساس نظرية الكم لعلم الأطياف الموجية "quantum theory of spectroscopy" الذي يستخدم يومياً من قبل الناس الذين لا يملكون أدنى فكرة عن كيفية نشأته.

تم اكتشاف حساب الاحتمال "calculus of probability" بكامله من قبل الرياضيين الذين كان جل اهتمامهم مصبوبًا حول تسخيره لتبرير وتسويغ القمار. فقد فشل في الغراض الأساسي الذي قصد به، لكنه مهد لأساسٍ علميٍّ لجميع أنواع التأمين، وهناك مجالات شاسعةٌ من فيزياء القرن التاسع عشر مبنية عليه. أقتَبِس ما يلي من عدد من العلوم الحديثة:

وصلت مكانة عبقرية الأستاذ ألبرت أينشتاين Albert Einstein مستوياتٍ جديدةٍ عندما تم فضح أن هذا الفيزيائي الرياضي كان قد طور الرياضيات منذ خمسة عشر سنةٍ مضت والتي تقوم الآن بالمساعدة على حل ألغاز الانسيابية المذهلة للهيليوم عند درجة قريبة من الصفر المطلق على مقياس الحرارة. تدور الأحداث الآن قبل انعقاد المؤتمر الموجه لمناقشة الحركة بين الجزيئات الخاص بالجمعية الأمريكية للكيمياء حيث قام الأستاذ ف. لندن F. London, من جامعة باريس الذي هو الآن أستاذٌ زائرٌ في جامعة دوك لندنDuke University بمشاركة فكرة الغاز "المثالي Ideal" مع البروفسور أينشتاين والتي ظهرت في الصحف المنشورة في عامي 1924 و1925.

لم تكن تقارير 1925 الخاصة بأينشتاين عن النظرية النسبية relativity theory، بل ناقش في ذلك الوقت مشاكل بدون أي أهميةٍ عمليةٍ. قام العالمان بوصف ظاهرة تحلل غاز "مثالي" degeneracy of an "ideal" gas قرب الحدود الدنيا لمقياس الحرارة. لأنه كان من المعروف عن جميع الغازات بأنها تتكاثف لتتحول إلى سوائل عند درجات الحرارة المطروحة قيد المناقشة، قام العلماء بتجاهل عمل أينشتاين قبل خمسة عشر سنةٍ مضت.

مع ذلك فقد أعطى الاكتشاف الحديث لسلوك الهيليوم السائل فائدة جديدة لفكرة أينشتاين المهمشة. تزداد لزوجة معظم السوائل وتصبح لصاقة أكثر وتنساب بشكل أقل عندما تصبح أكثر برودة. إن عبارة "أبرد من دبس السكر في كانون الثاني" هي مفهوم الشخص العادي عن اللزوجة وهي عبارة صحيحة.

مع ذلك فإن الهيليوم السائل هو استثناء مثير للحيرة. ينساب الهيليوم السائل بشكل أفضل عند درجة حرارة تعرف بنقطة "دلتا" "delta" point (تبلغ 2.19 درجة فوق الصفر المطلق) من انسيابه في درجات الحرارة الأعلى، وفي الواقع إن الهيليوم السائل نبيل بقدر نُبلِ الحالة الغازية منه. هناك بعض الأحاجي التي تضاف إلى جعبة سلوكه الغريب مثل قدرته الهائلة على نقل الحرارة. إذ تبلغ قدرته على نقل الحرارة عند درجة دلتا 500 ضعفًا أكثر من النحاس في درجة حرارة الغرفة. شكّل الهليليوم السائل بهذه الخصائص المتطرفة وخصائص أخرى أيضًا غموضًا كبيرًا للفيزيائيين والكيميائيين.

صرح البروفسور لندن بأن تفسير سلوك الهيليوم السائل يمكن شرحه بأفضل شكل باعتباره غاز بوز-أينشتاين Bose-Einstein "مثالي"، وذلك باستعمال الرياضيات التي تم عملها في عامي 1924 و1925، وبوضع بعض مفاهيم الناقلية الكهربائية في الحسبان. عند استعمال التشبيه البسيط، فإنه من الممكن جزئيًا تفسير الانسيابية المذهلة للهيليوم السائل عن طريق تصور السيولة كشيءٍ مشابهٍ للإلكترونات الهائمة في المعادن لتفسير الناقلية الكهربائية.


دعونا ننظر في اتجاه آخر. في مجال الطب والصحة العامة، فقد لعب علم الجراثيم science of bacteriology دورًا قياديًا لمدة نصف قرن. ما هي قصته؟ قامت الحكومة الألمانية إثر الحرب الفرنسية البروسية التي حدثت في عام 1870 بتمويل جامعة ستراسبورغ الكبرى. كان فيلهيلم فون فالدير Wilhelm von Waldeyer أستاذ التشريح الأول فيها، ومن ثم أستاذ التشريح في برلين. أورد في مذكراته أنه من بين الطلاب الذين رافقوه إلى ستراسبورغ Strasbourg خلال فصله الدراسي الأول كان هناك فتىً صغير غير ملفت للنظر ذا سبعة عشر عامًا يدعى باول أيرليش Paul Ehrlich. تضمن كورس التشريح الاعتيادي آنذاك التشريح والفحص المجهري للنسج.


لم يبدي أيرليش أي انتباه يذكر للتشريح، لكن كما علق فالدير في مذكراته: لاحظت بشكلٍ مبكرٍ جدًا أن أيرليش قد يعمل لساعات طوال خلف مكتبه، غراقًا كليًا في المعاينة المجهرية. علاوةً على ذلك، أصبح مكتبه مغطًا ببقعٍ ملونةٍ لكل وصفٍ. في يوم من الأيام عندما وجدته جالسًا للعمل، قمت بالتوجه إليه وسألته عن ماذا كان يفعل بكل خطوطه الملونة الموجودة على طاولته.


ذلك الطالب اليافع الذي مازال في فصله الدراسي الأول والذي يفترض به أن يلتفت لملاحقة كورس التشريح الاعتيادي، نظر للأعلى نحوي وعلق بلطف "Ich probiere:" يمكن ترجمة هذه العبارة بحريةٍ لـ "أنا أحاول" أو "أنا أعبث"، قمت بالرد عليه، "حسنًا، أكمل عبثك." لم يطل الأمر حتى وجدت أن أيرليش طالب ذا ميزةٍ غير اعتياديةٍ، وذلك دون أدنى توجيه أو تعليم من طرفي.


تصرف فالدير بحكمة وتركه بمفرده. قام أيرليش بشق طريقه خلال المنهاج الطبي بوتيرةٍ غير مستقرةٍ وحاز بالنهاية على شهادته بسبب أنه كان من الجلي لأساتذته عدم امتلاكه لأيِّ نيةٍ مستقبليةٍ لتوظيف شهادته للاستخدام العملي. من ثم سافر إلى بريسلاو Breslau حيث قام بالعمل تحت إشراف الأستاذ كونهايم Cohnheim، وهو أستاذ الدكتور فيلش Dr. Welch، مؤسس ومُوجِد كلية جونز هوبكنز Johns Hopkins الطبيّة.


لا أعتقد أن فكرة استخدام الشهادة قد خطرت على بال أيرليش. كان مهتمًا وفضوليًا واستمر بالعبث. بالتأكيد أن عبثه كان مسيرًّا من قبل غريزةٍ كامنةٍ، كان دافعه علميًأ بحتًا غير ذي رغبةٍ لمنفعةٍ. ماذا كانت نتيجة ذلك؟ كوخ Koch وزملاؤه أسسوا لعلمٍ جديدٍ، علم الجراثيم science of bacteriology. تجارب أيرليش تم تطبيقها الآن من قبل طالبٍ زميل، قام ويغيرت Weigert بوسم الجراثيم وبالتالي فقد ساهم في تفريقها عن بعضها. طور أيرليش ذات نفسه تقنية صبغ فلم الدم بالأصبغة، مع العلم أن معرفتنا الحديثة بمورفولوجيا الكريات البيض والحمرmorphology of the blood corpuscles مبنيةٌ على تقنيته.


لا يمر يومٌ دون أن تَستخدِم آلاف المستشفيات حول العالم تقنية أيرليش لفحص الدم. وبالتالي فإن العبث عديم الجدوى ظاهريًا في غرفة التشريح الخاصة بفالدير في ستراسبورغ أصبحت عاملًا رئيسيًا في الممارسة اليومية للطب.

سأذكر مثالًا واحدًا من الصناعة، اخترته بعشوائية، فهناك العديد منها. كتب الأستاذ بيرل Berl من معهد كارنيجي للتكنولوجياص Carnegie Institute of Technology (بيتسبروغ) ما يلي:

إن مؤسس صناعة مود رايون modem rayon industry كان الكونت الفرنسي شاردونيت Chardonnet. كان من المعروف أنه استخدم محلولًا من قطن نيترو في الإيثر-كحول، وهكذا فقد ضغط هذا السائل اللزج في الماء من خلال الشعيرات، الأمر الذي ساهم في تخثير ألياف نترات السللوز. يتم تعريض هذه الألياف بعد التخثير للهواء ومن ثم لفّها على بكراتٍ. في يوم من الأيام قام شاردونيت بتفحص مصنعه الفرنسي في بيزانسون Besançon. توقفت بالصدفة الماءُ التي يجب أن تكون مسؤولةً عن تخثير نترات السللوز. وجد العمّال أن عملية الفتل سارت بشكل أفضل بدون ماءٍ مقارنةً بها عندما كانت الماء حاضرةً. كان هذا عيد ميلاد عملية الفتل الجافِّ ذات الأهمية البالغة، والتي تمَّ متابعة العمل بها على مستويات أكبر.


III المقال رقم


أنا لا أقوم لوهلة باقتراح أنّ كل التجارب التي تجرى في المختبرات ستتحول في النهاية لتقنيةٍ عمليةٍ غيرَ متوقعةٍ أو أن الاستخدام العملي النهائي هو بحد ذاته التبرير الحقيقي لنفسه. علاوةً على ذلك فأنا أُشجِعُ على مقاطعة استعمال كلمة "استخدام"، وعلى تحرير الروح البشرية. كي نكون على يقين، سنقوم هكذا بتحرير بعض النزوات غير المؤذية. كي نكون على يقين سنقوم هكذا بإضاعة بعض الدولارات القيمة.


لكن الأمر الأكثر أهمية بالمطلق هو أننا سنقوم بكسر الأصفاد عن العقل البشري وسنحرره ليخوض المغامرات الموجودة في هذا اليوم، من جهةٍ أولى، كيف أن هالي Hale ورذرفورد Rutherford وأينشتاين وأقرانهم قد سافروا ملايين وملايين الأميال في أقاصي عوالم الفضاء، ومن جهةٍ ثانيةٍ، كيف أنَّ الطاقةَ اللامحدودةَ القابعةَ حبيسةَ الذرةِ قد حُرِرت.


إن ما قام به رذرفورد وآخرون كبور Bohr وميليكان Millikan بدافع الفضول لفهم بنية الذرّة قد أطلق قوى لربما تكونُ قادرةً على تغيير حياة البشر، لكنَّ هذه النتيجة غير المسبوقة والعملية لا تعتبر مبررًا لرذرفورد أو أينشتاين أو ميليكان أو بور أو أيَّ فردٍ آخر من أقرانهم. دعهم وشأنهم. لايمكن لرقابةٍ تعليميةٍ أن تقوم برسم المخططات التي سيعمل بها هؤلاء أو غيرهم.


أعترف مجدداً أن الهدر يبدو مذهلًا. لكن في الواقع أنَّه ليس كذلك فعلًا. كل الهدر الذي يمكن توظيفه في تطوير علم الجراثيم science of bacteriology لايمكن مقارنته بالمنافع التي كانت وليدةَ اكتشافات باستور Pasteur وكوخ وأيرليش وثيوبالد سميش Theobald Smith وهناك العديد من المنافع الأخرى التي لم تكن لتتحقق لو أنَّ فكرة ترشيد الاستخدام كانت مهيمنةً على عقولهم. هؤلاء الفنانون العظماء الذين هم عبراة عن علماءٍ وعلماء جراثيم قاموا بنثر الروح المعنوية التي سادت المختبرات، حيث كانوا يتبعون ببساطةٍ خطى فضولهم الطبيعي.

أنا لا أقوم بانتقاد المؤسسات التعليمية ككليات الهندسة أو المحامى التي تحرض فيها المنفعة حتمًا على الهيمنة. ليس من النادر أن يتم قلب الطاولات، وتقوم العقبات العملية التي تصادف في الصناعة أو في المختبرات بتحريض التساؤلات النظرية التي يمكن أو لا يمكن لها حل المشاكل التي اقترحت بفضلها، لكن يمكن أيضًا أن تفتح آفاق جديدة، قد تكون في هذه اللحظة عديمة الفائدة، لكنها تحمل في جعبتها إنجازاتٍ مستقبليةٍ نظريةٍ وعمليةٍ.


باستمرار التراكم السريع للمعرفة غير النافعة، خُلِقَ وضعٌ معينٌ ازداد فيه إمكانيةُ مهاجمةِ مشاكلٍ عمليةٍ بروحٍ معنويةٍ علميّةٍ. ليم ينخرط المخترعون وحسب في هذه الرياضة، بل كان للعلماء "الأنقياء" نصيبٌ منها أيضًا. قمت بذكر ماكاروني، وهو مخترع كان كفاعلِ خيرٍ للجنس البشريِّ، بل في الواقع قام "بانتقاء أدمغة البشر الآخرين." ينتمي أديسون Edison لنفس هذه الفئة. بينما كان باستور مختلفًا. كان عالمًا عظيمًا، لكنه لم يتهرب من مهاجمة المشاكل العملية كمسألة العنب الفرنسي أو مشاكل تخمير البيرة ولم يكتفِ بحل الصعوبة المباشرة بل واستخلص أيضًا من المشاكل العملية بعض الاستنتاجات النظرية صعبة المنال (عديمة النفع حاليًا) ولكنّها على الأرجح مفيدة لاحقًا بشكلٍ غيرِ متوقعٍ. كان أيرليش كثير التحزر والتخمين بطبعه الفضولي، الأمر الذي تحول بعنفٍ ضد مشاكل مرض السفلس وطارده بإصرارٍ حتى توصل لحلٍ عمليٍّ وفوريِّ الاستخدام وهنا كان اكتشاف السلفارسان.


إن الاكتشافات التي حققها بانتينغ Banting بالأنسولين لاستعماله في معالجة مرض السكري كما وتنتمي اكتشافات مينوت Minot وويبل Whipple لخلاصة الكبد لاستعماله في معالجة فقر الدم الخبيث لنفس الفئة: الإثنان تم عملهما من قبل رجال علمٍ حقيقيين كانوا قد أدركوا أن هذا الكمَّ من المعرفةِ غير النافعةِ قد تم تجميعها من قبلِ أشخاصٍ غيرِ مدركين لما تحمله من فوائدٍ عمليةٍ، لكن الوقت الآن أصبح مناسبًا لطرح أسئلةٍ عمليةٍ بمنحىً علميٍّ.

لذلك أصبح من الجليِّ أنَّ المرء يجب أن يتوخى الحذر من أن يَنسُبَ الاكتشاف العلميَّ بشكلٍّ كليٍّ لأيِّ شخصٍ. هناك غالبًا تاريخٌ طويلٌ وغيرُ مستقرٍ لكل اكتشافٍ. قد يجد المرءُ بعضه هنا، وبعضه الآخر هناك. تنجح الخطوة الثالثة لاحقًا وهكذا حتى يتمكن عبقريٌّ من تجميعٍ القطعٍ سويًا ويقوم بعملِ المساهمةِ الحاسمة. العلم كنهر المسيسيبي، يبدأ من جدولٍ صغيرٍ في الغابة البعيدة. تقوم السيول الأخرى بزيادة حجمه. حتى يتشكل بالنهاية النهر الذي يهدم السدود الذي كان نتيجة اجتماع مصادرٍ لا تحصى.

لا يمكنني التعامل بشكلٍ كاملٍ مع هذا الجانب لكن يمكن أن أقول: إن مساهمة الكليات بنشاطاتهم على مدى فترة تبلغ مئة أو مئتين عامًا قد ينتهي بها المطاف إلى اعتبار نشاطاتها كاذبةً، ليست كاذبةً بدورها في تدريب الأشخاص الذين قد يصبحون غدًا مهندسين عمليين أو محامين عمليين أو أطباء عمليين، بل في حقيقة أنه حتى مع الملاحقة الصارمة لتحقيق أهدافٍ عمليةٍ فهناك كميةٌ ضخمةٌ لما يبدو كنشاطاتٍ غير نافعةٍ مازالت مستمرةً حتى الآن.


بفضل هذه النشاطات غير المفيدة حصلت اكتشافاتٌ قد تُثبِتُ بشكلٍ واضحٍ أنَّ لهذه الاكتشافات أهميةٌ لامتناهيةٌ للعقل البشري وللروح البشرية أكثر من الإنجازات ذات الغاية المفيدة التي أُوجِدت من أجلها الكليات الجامعية.

إن الاعتبارات التي التمستها تقوم بتأكيد (في حال الحاجة للتأكيد) الأهمية المهيمنة للحرية الفكرية والروحية. تحدثت في العلوم التجريبية، تحدثت في الرياضيات، لكن ما أقوله صحيحٌ بشكلٍ مماثلٍ للموسيقا والفن ولأي شكلٍ آخر من أشكال حرية الروح البشرية غير المقيدة. في الواقع أنهم يحققون الرضى لروح الفرد السّاعية لنقائها وسموها وإن هذا هو المبرر الوحيد الذي احتاجوه لتسويغ أفعالهم. وعند قيامنا بتبرير هذه الأفعال دون الرجوع لأي مصدرٍ من أي نوعٍ، كان ضمنيًا أو فعليًا للمنفعة فإننا نقوم بتبرير أفعال الكليات والجامعات ومعاهد البحث العلمي.


إن المؤسسة التعليمية التي تعطي الحرية للأجيال المتوالية للأرواح البشرية تكون أفعالها مبررةً كفايةً سواء كان خريجًا أو لم يكن أو قام بتحقيق كما يسمى إنجازٍ مفيدٍ للمعرفة البشرية. سواءً كانت قصيدةً أو سيمفونيةً أو لوحةً أو حقيقة رياضيةً أو حقيقةً علميّةً جديدةً، فجميعها تحمل بداخلها التبرير الذي تتطلبه أو تحتاجه الجامعات أو الكليات أو معاهد البحث العلمي.

إن الموضوع الذي أنا بصدد مناقشته لديه في هذه اللحظة تأثير غريب. يتم حاليًا بذل جهد في بعض المناطق الكبيرة (ألمانيا وإيطاليا خصوصًا) لتشديد الخناق على حرية الروح البشرية. أصبح من المعروف عن الجامعات أنها أصبحت أدواتًا لهؤلاء الذين يؤمنون بعقيدةٍ خاصةٍ ذات طابعٍ سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ أو عرقيٍّ. سيقوم الآن ولاحقًا فردٌ أرعنٌ في أحد الدول الديموقراطية القليلة المتبقية في هذا العالم بالتشكيك بالأهمية الجوهرية للحرية الأكاديمية المطلقة.


العدو الحقيقي للعرق البشريِّ ليس المفكر المستهتر الذي لا يخشى شيئًا، سواءً كان على صوابٍ أو لم يكنْ. العدو الحقيقي هو الإنسان الذي يحاول قولبة الروح البشرية كي يمنعها من فرد أجنحتها، كما كانت مفرودةً مرةً في إيطاليا وألمانيا، شأنهم شأن بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية.

هذه ليست فكرةً جديدةً. كانت هذه الفكرة التي جسدها فون همبولدت في ساعة غزو ألمانيا من قبل نابوليون Napoleon، قام بتصوّر وتأسيس جامعة برلين. إنها الفكرة التي جسدها الرئيس غيلمان Gilman في تأسيس جامعة جونز هوبكنز ، والتي قامت بعدها كل جامعات البلاد بالبحث على مستوى أعلى أو أقل لتعيد بناء نفسها. إنها الفكرة التي ستكون صحيحةً بالنسبة لأيِّ فردٍ يعطي قيمةً لروحه الخالدة دون أن تتأثر بالعواقب الواقعة على نفسه.


مع ذلك فإن الحريَّة الروحيَّة تصل إلى مدىً أبعد من الأصالة سواء في مملكة العلم أو الإنسانية، وهذا يدل على التسامح في مختلف مجالات اختلافات الإنسان. ماذا يمكن أن يكون أكثر سخافةً وتفاهةً في وجه تاريخ العرق البشري من التشابهات أو الاختلافات الموجودة في عرقٍ أو دينٍ؟ هل تريد الإنسانية السمفونيات واللوحات والحقيقة العلمية العميقة أم أنها تريد سمفونياتٍ مسيحيَّةً أو لوحاتٍ مسيحيَّةً أو علمٍ مسيحيٍّ. أم أنّها تريد سمفونياتٍ يهوديَّةً أو لوحاتٍ يهوديَّةً أو علمًا يهوديًّا أو محمديًّا أو مصريًّا أو يابانيًّا أو صينيًّا أو أميركيًّا أو ألمانيًّا أو روسيًّا أو شيوعيًّا أم أنها تريد مساهماتٍ محافظةً وتعبيراتٍ عن الغنى اللامتناهي للروح البشرية؟


IV المقال رقم


من بين أكثر العواقب الصادمة والفورية لعدم التسامح الأجنبي، لربما أذكر بوضوحٍ التطور السريع لمعهد الدراسات المتقدمة الذي تم تأسيسه من قبل السيد لويس بامبرغر Louis Bamberger وشقيقته السيدة فليكس فلود Felix Fuld في برينستن Princeton، نيوجيرسي New Jersey. اقتُرِح تأسيس المعهد في عام 1930.


كان يقع المعهد في برينستن لسببٍ جزئي ألا وهو تعلق المؤسسين بولاية نيوجيرسي، لكن بحسب حكمي على الموضوع لأن برينستن كان فيها كلية للدراسات العليا ذات جودة عالية والتي كان التعوان الوثيق معها مناسبًا. كان على المعهد دَينٌ لايمكن تقديره بالكامل لجامعة برينستن. بدء عمل المعهد بِجزءٍ معتبرٍ من موظفيه في عام 1933. تضمُّ أعضاء الهيئة التدريسية علماء أمريكيين بارزين، فبالنسبة للرياضيين هناك (فيبلن Veblen وأليكسندر Alexander ومورس Morse)، أما بالنسبة للإنسانيين فهناك (ميرت Meritt ولوي Lowe والسيدة غولدمان Goldman)، ومن بين الصحفيين وخبراء الاقتصاد هناك (ستيوارت Stewart وريفل Riefl وفارين Warren وإيرل Earle وميتراني Mitrany).


ويجب أن يضاف إلى هؤلاء علماءٌ وأصحاب شهاداتٍ من نفس السويَّة العلميَّة موجودين مسبقًا ضمن تنظيم جامعة برينستن ألا وهي مكتبة برنستن ومختبراتها. لكن معهد الدراسات المتقدمة مديون لهتلر Hitler بأينشتاين وويل Weyl وفون نيومان von Neumann بالنسبة للرياضيات، وبهيرزفيلد Herzfeld وبانوفسكي Panofsky في مجال الدراسات الإنسانيَّة، ولاستضافة شبابٍ أصغر تأثروا خلال السنوات الست السابقة بهذه المجموعة المميَّزة، وأصبحوا مسبقًا محسوبين على حساب قوة المنحة الدراسيَّة الأميريكية في كل بقعةٍ على الأرض.

من وجهة نظر المنظمة فإن المعهد هو الأبسط والشيء الأقل رسميةً يمكن تخيله. فهو يتألف من ثلاث كلياتٍ (كليّة الرياضيات وكليّة الدراسات الإنسانيَّة وكلية الاقتصاد والسياسة). كلُّ كليةٍ مؤلفةٌ من من مجموعةٍ دائمةٍ من الأساتذة ومجموعةٍ من الأعضاء الذين يتغيرون سنويًا. كل كليّة تقوم بإدارة أمورها كما يناسبها، ويقوم كل فردٍ ضمن كل مجموعةٍ ببذل الجهد والوقت حسب رغبته.


يتم الاعتراف بالأعضاء الذين قد أتوا مسبقًا من اثنين وعشرين بلدًا مختلفًا ومن ثلاثة عشر معهد دراساتٍ عليا في الولايات المتحدة الأمريكية بالتقديم في حال اعتُبِروا كفوئين من قبل مختلف المجموعات. ويتمتعون بنفس الحريَّة تمامًا شأنهم شأن الأساتذة. قد يعملون مع هذا الأستاذ أو ذاك، قد يضطرون للعمل لوحدهم في حال تم فرزهم إفراديًا، ويتم تقديم الاستشارة من وقت لأخر لأيِّ شخصٍ يرغب بأن يكون مفيدًأ. لا وجود لروتينٍ يتّبع، ولا يتم عمل خطوطٍ فاصلةٍ بين الأساتذة والأعضاء والزّوار. إن طلاب برينستون وأساتذتها وأعضاء المعهد يختلطون ببعضهم بطريقةٍ تجعل من الصعب التمييز بينهم. إن التّعلم بهذه الطريقة يرفع ويصقل الثقافة.

وبالتالي فإن النتيجة العائدة على الفرد والمجتمع تُتْرك كي تعتني بنفسها. ليس هناك اجتماعاتٌ في الكليّة لتعقد، ولا وجودَ للجانٍ.


لذلك فإن الأشخاص أصحاب الأفكار يتمتعون بأوضاعٍ مواتيةٍ للقيام بالتفكير والتشاور. يمكن لرياضيٍّ أن يقوم بتطوير الرياضيات بدون وجود مصادر للتشتيت، كذلك الأمر للإنسانيِّ في مجاله أو لخبير اقتصادٍ أو لطالبِ سياسةٍ. تم التقليل من الإدارة والرقابة في المدى والأهمية. إن الرجال بدون أفكار، بدون القدرة على التركيز في الأفكار، لا يمكن لهم أن يشعروا أنهم داخل بيتهم في المعهد.

يمكنني توضيح هذه النقطة من خلال ذِكرٍ مختصرٍ لبعض الأمثلة. تمَ منحُ راتبٍ ثابتٍ لأستاذٍ في جامعة هارفارد Harvard كي يأتوا به إلى برينستون، فكتب سائلًا: "ما هي واجباتي؟" فقمت بالردِّ كالتالي: "ليس هناك واجباتٌ عليك فقط فرص." هناك رياضيٌّ يافعٌ مقتدرٌ، قدِم إليَّ بعد أن قضى عامًا في برينستون يريد أن يودعني. عندما كان على وشكِ الرحيلِ علَّق بما يلي: "ربما تودُّ أن تعرف ماذا عَنَتْ هذه السّنةُ بالنسبة إليّ." "نعم" أجبتُه.

"الرياضيات" ردَّ عليّ "تتطور بسرعة، الأدب الحالي شاسع، مضى إلى الآن عشر سنواتٍ منذ تحصيلي لدرجة الدكتوراه. استطعت لفترةٍ معينةٍ أن أبقى مواكبًا للموضوع، لكن أصبح هذا الأمر مؤخرًا أكثر صعوبةٍ وغير محقَّقًا. الآن وبعد سنةٍ هنا، رُفِعَتِ الستائرُ والغرفةُ مضاءةٌ والنوافذُ مفتوحةٌ. هناك مقالتان في فكري سأقوم بكتابتهما قريبًا." "إلى متى سيدوم هذا الأمر؟" قمت بالسؤال "خمس سنوات وربما عشرًا." "ثم ماذا؟" "سأعود."

هناك مثالٌ ثالثٌ حدث مؤخرًا. هناك أستاذٌ في جامعةٍ غربيَّةٍ كبيرةٍ وصل إلى برينستون في أواخر شهر كانون الأول. كان يفكر باستكمال بعض الأعمال مع الأستاذ موري Morey (في جامعة برينستون). لكن موري اقترح أنه قد يكون من المفيد الاجتماع ببانوفكسي وسوارزنسكي Swarzenski في المعهد. الآن هو مشغول مع الثلاثة.

قام بإضافة تعليقٍ: "سأبقى حتى تشرين الأول القادم" "سيكون الطقس حارًا عليك في منتصف الصيف" قلت له "سأكون سعيدًا ومشغولًا لألاحظ الحرارة." لذلك فإنّ الحريَّة لا تجلب الركودة بل خطر الإفراط في العمل. سَألتُ مؤخرًا زوجة أحد الأعضاء الانكليز: "هل يعمل الجميع حتى الساعة الثانية صباحًا؟"

لم يكن للمعهد حتى الآن مبنىً خاصًا به. حتى هذه اللحظة الرياضيين ينزلون كضيوفٍ لدى رياضيِّي برينستون في فاين هال Fine Hall ، بعض الإنسانيين كانوا ضيوفًا لدى إنسانيِّي برينستون في ماكورميك هال Fine Hall ، آخرون يقومون بالعمل في غُرَفٍ متوزعةٍ ضمن البلدة. يسكن الاقتصاديون الآن ضمن جناح في برينستون إن The Princeton Inn. يقبعُ سكني الخاص في مبنىً إداريٍ في شارع ناسو Nassau Street، حيث أعمل بين أصحاب المتاجر وأطباء الأسنان والمحامين ومقوِّمي العظام ومجموعاتٍ من علماء برينستون الذي يقومون بعمل استبيانٍ حكوميٍّ محليٍّ وبدراسةٍ لتعدادِ السُّكان.


لذلك فإن أحجار البناء والاسمنت جوهريةٌ للغاية، كما قام الرئيس غيلمان بإثبات هذا في بالتيمور Baltimore قبل أكثر من ستين سنةٍ خلتْ. ومع كل هذا فنحن نفتقر للتواصل غيرِ الرسميِّ مع بعضنا البعض ونحن على وشك أن نعالج هذا الخلل بالصعود ببناءٍ قام بتمويله المؤسسون، سيدعى بأسم فولد هال Fuld Hall. لكن الرسميات لن تستمر طويلًا.


يجب على المعهد أن يبقى صغيرًا وسيبقى متمسِّكًا بقناعةِ أن مجموعةَ المعهد ترغب بالمتعةِ والأمانِ والحريَّةِ بعيدًا عن التنظيم والروتين، وأخيرًا سيكون هناك تواصل غير رسميٍّ مع علماء جامعة برينستون وآخرين من الذين يمكن استدراجهم من وقت لآخر إلى برينستون من أماكن بعيدةٍ.


من بين هؤلاء نيلز بور Niels Bohr قد أتى من كوبنهاغن Copenhagen وفون لاو von Laue من برلين وليفي سيفينا Levi Civita من روما Rome وأندريه وايل Andre Weil من ستراسبورغ وديراك Dirac وج.ه. هاردي G. H. Hardy من كامبردج Cambridge وباولي Pauli من زوريخ Zurich وليمايتر Lemaitre من لوفان Louvain ووايد غراي Wade-Gery من أوكسفورد وأميريكيون من هارفارد ويال Yale وكولومبيا Columbia وكورنيل Cornell وجونز هوبكنز وشيكاغو Chicago وكاليفورنيا California ومراكز علمٍ ونورٍ أخرى.

لا نقطع لأنفسنا عهودًا، لكننا نعتز بالأمل بأن المطاردة الخالية من العوائق للمعرفة غير النافعة سَتُثبِتُ أنها ستعود بنتائجٍ في المستقبل كما فعلت سابقًا في الماضي. لا نقوم أبدًا بالدفاع عن المعهد على هذا الأساس. إن المعهد موجودٌ كجنةٍ للعلماء (كالشعراء والموسيقيين) الذين كسبوا الحق بالتصرف كما يرغبون والذين يحققون أكثر الإنجازات عندما يخولون لفعل هذا.



 

المصدر:

The Usefulness of Useless Knowledge


 

ترجمة:

محمد مهروسة


مراجعة وتدقيق:

علي الحمد

"مهندس كهربائي، مهتم في فلسفة الرياضيات والمنطقانية"


صالح مهدي كاظم

"طالب رياضيات سنة ثالثة، مهتم بالرياضيات وبعض علوم اللغة العربية"


180 views0 comments

Recent Posts

See All

Comments


bottom of page