بدايةً:
قد يبدو أن هذا المقال يقدم موقفين متناقضين، فهو يزعم من جهة بأنه بدون الرياضيات (أو بشكل أصح بدون الأشكال الرياضية "Mathematical Formalism"، لن يكون هناك عالم كمّ أو على الأقل لن يكون هناك ميكانيكا كم "Quantum Mechanism". ومن جهة أخرى، ينقض المدرسة الفيثاغورية "Pythagoreanism" على الأقل من حيث تطبيقها في هذه القضية المحددة.
الحجة الرئيسية المناهضة لفيثاغورس فيما يلي هي أن العالم (أو الطبيعة) لا تعني الرياضيات حرفيًا (مهما كان معنى ذلك) أو أنه "مكون" من أرقام لأنه وبكل بساطة وفي ميكانيكا الكم على الأقل لن يكون لدينا (تقريبًا) أي شيء بدون الرياضيات.
المدرسة الفيثاغورية: الأشياء هي أرقام
يعتقد الفيثاغوريون أن العالم كله رياضي. أو بشكل أكثر دقة أن العالم هو الرياضيات. نقوم بهذا التمييز لأنه إذا جادل العالم الفيزيائي بأن "العالم رياضي"، فقد يعني ذلك فقط أنه يمكن وصف العالم بدقة شديدة بواسطة الرياضيات. ولكن فيثاغورس يزعم أن "الأشياء هي أرقام". لذلك يؤسس هكذا شخص هوية حرفية بين الرياضيات والعالم (أو أجزاء منه).
ولكننا لسنا بحاجة إلى قبول الرأي الأخير.
بعد قول كل ما سبق، قد يكون الأمر أن هذه المقالة تقدم بالفعل موقفًا فيثاغورسياً - على الأقل عندما يتعلق الأمر بميكانيكا الكم. هذا لأنه من الصعب أحيانًا معرفة ما هو موقف فيثاغورس في الواقع. أولاً، من الصعب أن نفهم عبارة "العالم رياضي" أو أنه مكون من أرقام.
إذن السؤال الذي يجب طرحه الآن هو:
ما معنى أن تكون "الأشياء" "أرقامًا"؟
لا يتمثل موقف فيثاغورس فقط في المجادلة بأن الرياضيات يمكنها وصف (أو إعطاء نموذج) للأشياء بل يكمن في زعمه بأن الأشياء هي حرفياً أرقام. ولكن ماذا يعني ذلك في الواقع؟ نتيجة لذلك، يمكن الآن التساؤل عما إذا كان يجب التعامل مع عبارة "كل الأشياء أرقام" بشكل شعري أو حرفي. فإذا نظرنا إليها من منظور حرفي، فإنه بالكاد يكون لها معنى واضح. وإذا نظرنا إليه من منظور شاعري، فإنه لا يزال يتطلب الكثير من التأويل.
أحد التفسيرات لموقف فيثاغورس هو أنه إذا كانت الأشياء أرقامًا، فليس من المستغرب أن تكون نظرية الأوتار "String Theory" على رأس الأشياء عندما يتعلق الأمر بوصف الواقع. ما أعنيه بذلك هو:
1) إذا كانت الأشياء أرقامًا
2) وكانت الأرقام تستخدم أيضًا لوصف (أو نمذجة) الأشياء (وهي أرقام)
3) فإن الأرقام تصف (أو تعطي نمذجة) للأرقام.
هذا يعني أننا لن نهرب أبدًا من الأرقام. ومن يدري، ربما هذه هي النتيجة التي يريدها الفيثاغوريون بالضبط!
دعونا نغير الموضوع قليلا.
قدم الفيزيائي جون أرشيبالد ويلر (1911-2008) أفضل رد على الفيثاغورية في الفيزياء. (لست متأكدًا تمامًا إذا كان يقصد ذلك).
قيل بأن ويلر كان يكتب العديد من المعادلات الغامضة على السبورة ثم يقف في الخلف ويقول لطلابه:
"الآن سأصفق بيدي وسيظهر الكون إلى الوجود."
وفقًا لفيثاغورس، المعادلات هي الكون.
ثم قدم ستيفن هوكينغ (1942-2018) مقولة فاقت عبارة ويلر:
"حتى لو كانت هناك نظرية ممكنة موحدة وواحدة، فهي مجرد مجموعة من القواعد والمعادلات. ما الذي ينفث في نار المعادلات ويجعل الكون واضحًا للوصف؟ "
قدمت كاتبة العلوم الأمريكية كيتي فيرجسون (1941-) إجابة (محتملة) فيثاغورية على سؤال هوكينج. واقترحت إمكانية "أن تكون المعادلات هي النار". بدلاً من ذلك، هل كان من الممكن أن يكون هوكينج نفسه "يقترح أن للقوانين حياة أو قوة إبداعية خاصة بها؟". وهل المعادلات هي النار؟
إذن ما الذي يعنيه بالضبط "نفخ النار في المعادلة [لصنع] العالم"؟
جون د. بارو
الرياضيات هي أداة مفيدة للغاية. لكن عالم الكونيات الإنجليزي والفيزيائي النظري وعالم الرياضيات جون د. بارو (1952-2020) ذهب خطوة أبعد من تلك الحقيقة البديهية. أظهر بارو موقفه من فيثاغورس بالطريقة التالية:
"من خلال ترجمة الواقع إلى الأرقام وجدنا سر بنية الكون وطرق عمله."
بالطبع يمكن للجميع تقريبًا قبول الكون وتخصيص أجزائه بالأرقام ... أو يتم وصفها بالأرقام ... أو يتم التقاطها بالأرقام ... أو يتم تفسيرها بالأرقام ... أو (باستخدام كلمات بارو الخاصة) ترجمتها إلى أرقام.
ولكن في الواقع هذا ليس موقفاً فيثاغوريا.
كنتيجة لكل ما ذكر أعلاه، فلا عجب أن الكثير من الناس قد اعتقدوا أنه من خلال الرياضيات (كما قال بارو) "وجدنا سر بنية الكون وطرق عمله". ولكن حتى هنا يجب أن يكون هناك موقف مخالف لفيثاغورس. ما أعنيه بهذا هو أن الرياضيات تكتشف سر الأشياء الموجودة بالفعل وبشكل منفصل. في هذه الحالة "بنية ومنشآت" العالم. من المؤكد أنه لا يحتاج أيضًا إلى القول بأن هذه البنية والمنشآت هي رياضيات حرفيًا (أو أرقام).
... أو ربما قد يحتاج لذلك.
إذن فالعالم وأجزاؤه في الواقع في نظر فيثاغورس رياضي. هذا لا يعني أن الرياضيات مفيدة ببساطة في وصف العالم بل يعني أن العالم نفسه هو عالم رياضي. في الواقع يجب على المرء أن يأخذ هذا حرفيا. إليكم رأي بارو مرة أخرى في موقف فيثاغورس:
"لقد حافظ [الفيثاغوريون]على رأيهم بأن" الأشياء في حد ذاتها هي أرقام "وأن هذه الأرقام كانت المكونات الأساسية للواقع."
أصبح بارو بعد ذلك أكثر وضوحًا عندما واصل بالطريقة التالية:
"ما يميز هذا الرأي هو أنه يعتبر الأرقام خاصية جوهرية للأشياء وهذا يعني أن الرقم موجود في الأشياء ولا يمكن فصله أو تمييزه بأي شكل من الأشكال ".
وعلاوة على ذلك:
"لا يكمن الأمر في أن الأشياء تمتلك فقط خصائص معينة يمكن وصفها بالصيغ الرياضية. تم ترقيم كل شيء من الكون ككل الى كل جزء من أجزائه".
كما ذكرنا سابقًا، من الصعب فهم ما تعنيه جملة "الأشياء نفسها أرقام". هل يمكننا أن نجادل حقًا في أن الواقع وأجزاءه هي رياضيات؟ هل يمكننا حقًا أن نجادل في أن الواقع وأجزاءه تتكون حرفيًا من أرقام أو معادلات؟ وهل يمكننا حتى أن نجادل في أن الواقع وأجزاءه تُنشئ بطريقة ما الرياضيات أو الأرقام أو المعادلات؟
ماكس تيجمارك (Max Tegmark)
يضع الفيزيائي وعالم الكونيات ماكس تيجمارك (1967-) أيضًا الحالة المعاصرة للفيثاغورية في المثال الملموس التالي:
"[إذا] إذا كانت قوة المجال الكهربائي هنا في الفضاء المادي تتوافق مع هذا الرقم في البنية الرياضية على سبيل المثال فإن واقعنا المادي الخارجي يتناسب مع تعريف كونه هيكل رياضي. وفي الحقيقة عين الهيكل الرياضي."
لتوضيح ما كُتب أعلاه.
لا يجادل ماكس تيجمارك ببساطة في أن الرياضيات مثالية لوصف "شدة مجال الكهرباء" في "فضاء مادي" معينة. إنه يجادل بأن شدة مجال الكهرباء هي "بنية رياضية". أي أن الرياضيات التي نستخدمها لوصف مجال الكهرباء هي نفسها مجال الكهرباء. وبالتالي، إذا كان هذا هو الحال بالفعل، فإن ما يسمى بـ "معجزة الرياضيات" ليست مفاجأة! وذلك لأنه كما ذكرنا سابقًا، لدينا أساسًا موقف تصف فيه الرياضيات الرياضيات. وإذا كانت الرياضيات تصف الرياضيات، فإن كلمة "وصف" بالتأكيد ليست الكلمة المناسبة لاستخدامها في المقام الأول.
يعطينا تيجمارك مزيدًا من التفاصيل حول رأيه هنا:
"هناك مجموعة من الأرقام العميقة جدا في كل نقطة في الزمكان، وأعتقد أنها لا تخبرنا فقط عن وصفنا للواقع، ولكن عن الواقع نفسه".
يمكن القول بأن تيجمارك يناقض نفسه فيما سبق.
في مرحلة ما، يجادل تيجمارك أن الحقل "هو مجرد [] شيء يتم تمثيله بالأرقام في كل نقطة في الزمكان. "لاحظ هنا أن لدينا مصطلحان "شيء يتم تمثيله". ولكنه يقول في مكان آخر بأن الحقل "مجرد" بنية رياضية. يشير المصطلحات الأخيران إلى أن كل ما لدينا هو رقم. إعادة: يقول تيجمارك أن الحقل "ممثل" بـ "ثلاثة أرقام في كل نقطة في الزمكان". إلا أنه لا يقول (في هذا المقطع على الأقل) أن الحقل عبارة عن مجموعة من الأرقام (أو حتى "بنية" تتضمن أرقامًا).
لذلك ربما يكون هناك فرق بين القول (كما فعل الفيثاغورسيون الأصليون) "الأشياء نفسها هي أرقام" وبين القول بأن العالم رياضي. قد يشير الأخير ببساطة إلى أن العالم يعرض سمات تقوم الرياضيات بتقديم أفضل تعبير عنها (أو وصفها). القول الأول من ناحية أخرى ينص على أن العالم حرفيا هو الرياضيات.
لنأخذ الآن حالة نظرية الأوتار.
ميتشيو كاكو ونظرية الأوتار أو النظرية الخيطية "String Theory"
تبدو نظرية الأوتار أكثر مجالات الفيزياء اعتمادًا على الرياضيات (رغم أن هذا الأمر يمكن وضعه تحت مجهر النقاش بالطبع)، بل يرى بعض علماء الفيزياء أن نظرية الأوتار "فرع من الرياضيات البحتة".
لا يخفي مُنظِّر نظرية الأوتار ميتشيو كاكو (1947-) هذا عندما يقتبس من "عالم فيزياء من جامعة هارفارد" بكلماته الخاصة:
"سخر أحد علماء الفيزياء بجامعة هارفارد من أن نظرية الأوتار ليست فرعًا من فروع الفيزياء على الإطلاق، ولكنها في الواقع فرع من الرياضيات البحتة أو الفلسفة أو من الدين."
بعد أن ساند كاكو موقف فيثاغورس، اقتبس من ألبرت أينشتاين (ليدعم رأيه) قائلاً:
"أنا مقتنع بأنه يمكننا اكتشاف المفاهيم والقوانين عن طريق البناء الرياضي البحت ... التي توفر مفتاح فهم الظواهر الطبيعية."
تعمق أينشتاين أكثر عندما أضاف هذه الكلمات:
"قد تشير التجربة إلى المفاهيم الرياضية المناسبة ولكن بالتأكيد لا يمكن استنتاجها منها."
تبدو كل الكلمات المذكورة أعلاه مُساندة لتوجه فيثاغورس (أو عقلانية على نطاق أوسع) على الأقل ظاهريًا. ويبدو أن أينشتاين أصبح واضحًا إلى حد ما حول هذا الأمر في جملته الأخيرة. هكذا:
"" بمعنى واضح أعتقد أن الفكر الخالص يمكن أن يدرك الواقع، كما كان يحلم القدماء. "
الشيء الغريب هو أن كاكو يبدو وكأنه يقدم لنا كذلك سردًا يتناقض مع موقف أينشتاين في الفيزياء الرياضية (في كتابه ما وراء أينشتاين). كتب كاكو التالي:
كشف أينشتاين عن دليل للطريقة التي وصل بها إلى اكتشافاته العظيمة: فكر في الصور المادية. دائمًا ما تأتي الرياضيات بغض النظر عن كونها مجردة أو معقدة لاحقاً، بشكل أساسي كأداة لترجمة هذه الصور المادية إلى لغة دقيقة ".
كما كتب كاكو في نفس الكتاب أيضًا:
" فاينمان وغيره من العلماء العظماء يفكرون من منظور الصور التي تعبر عن المفهوم الفيزيائي الأساسي. تأتي الرياضيات لاحقًا ".
إذا عدنا إلى موقف كاكو.
أما بالنسبة للتهمة (إذا اعتبرناها تهمة) معراضة كاكو لفيثاغورس، فلا تأخذ كلامي: خذ كلام الرجل نفسه. أولاً، يُبين كاكو الموقف الأساسي لفيثاغورس بهذه الطريقة:
"ليس من المستغرب أن يكون شعار الفيثاغوريين هو" كل الأشياء هي أرقام ". فقد كانوا سعداء جدًا بهذه النتيجة لدرجة أنهم تجرأوا على تطبيق قوانين التناغم هذه على الكون بأسره."
ثم يواصل كاكو القول بأن "نظرية الأوتار" هي "عودة علماء الفيزياء [] إلى حلم فيثاغورس".
ميكانيكا الكم "Quantum Mechanics"
فيليب بول
يجادل الكاتب العلمي فيليب بول (1962-) في كتابه ما وراء الغرابة "Beyond Weird": لماذا كل شيء تعتقد أنك تعرفه عن فيزياء الكم مختلف) أن رياضيات ميكانيكا الكم "لا تقول شيئًا عن" العالم الحقيقي ". كما ردد العديد من الفيزيائيين وبعض الفلاسفة هذا الرأي. ومع ذلك، قد يبدو هذا موقفًا غريبًا. إنه أمر غريب لأنه إذا كانت رياضيات ميكانيكا الكم ناجحة بشكل غير عادي عندما يتعلق الأمر بالتنبؤات والتطبيقات والهندسة والتكنولوجيا وما إلى ذلك، فعندئذ (ربما بحكم التعريف تقريبًا) يجب أن تكون مع العالم الحقيقي ...
ولكن ما هو دور كلمة "حقيقي" هنا؟ هل يعني ذلك أننا (أو الرياضيات) يجب أن نعكس صورة العالم؟ لكن كيف يمكن ذلك؟ وحتى لو كانت الرياضيات تصف الظواهر الفيزيائية بشكل مثالي من حيث مقاديرها وقيمها ونقاط قوتها وشحناتها وسرعاتها وأبعادها ومواضعها المكانية وغيرها، فهل هذه حالة تعكس العالم نفسه؟ بالتأكيد إذا عكست رياضيات ميكانيكا الكم العالم فسيبدو الحال كما هو في العالم. في هذه الحالة، ما الغرض من هذا الانعكاس في الواقع؟ (فكر هنا في الادعاء الذي غالبًا ما يكون: أفضل نموذج لوصف س هو س نفسه.
لذلك يمكن القول بأن الرياضيات لا تستطيع حرفياً أن تعكس العالم.
على الرغم من قول ذلك، إلا أن الحقيقة في أحد الرأيين بالتأكيد.
كما ذُكر في المقدمة، بدون الرياضيات لن يكون لدينا تقريبًا (أو حتى حرفياً) ما نقوله عن عالم الكم سواء كان حقيقيًا أم غير حقيقي. عندما يتعلق الأمر بالعالم الكمي فإن المعنى المعتاد للملكية ليس متاحاً لنا. وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نلاحظ أو نشعر أو نشم أو (في كثير من الأحيان) حتى أن نتخيل العالم الكمي. وبالتالي فإن الرياضيات هي كل ما لدينا.
عبر الكاتب العلمي جون هورغان (1953-) عن كل هذا بشكل ممتاز في المقطع التالي:
" تساعد الرياضيات علماء الفيزياء على تحديد ما لا يمكن تحديده بخلاف ذلك. الكوارك هو بناء رياضي بحت ولا معنى له بدون تعريفه الرياضي. خصائص الكواركات (الكتلة، اللون، الغزل، الشحنة الكهربية) هي خصائص رياضية ليس لها مثيل في العالم الماكروسكوبي الذي نعيش فيه ".<1>
وبالتالي، إذا كانت الرياضيات هي كل ما لدينا فليس من المفاجئ حقًا أن يجادل العديد من الفيزيائيين (الأكثر فلسفية منهم) بأن ميكانيكا الكم لا تقول شيئًا عن العالم الحقيقي. (لقد قيل هذا منذ نيلز بور في عشرينيات القرن الماضي). أو على الأقل فكل ما هو مهم أو حتى ذو صلة يقال عن عالم الكم تُحدده الرياضيات.
لذلك عندما كتب فيليب بول أن ريتشارد فاينمان يمكنه فقط عمل "نظرية الكم" (أي الرياضيات) فهذا ليس مفاجئًا. لأنه يمكن القول بأن الرياضيات هي كل ما لدينا وكل ما يمتلكه فاينمان. عندما نتخطى الرياضيات إلى التفسير، فعندئذ (ربما بحكم التعريف) لا يسعنا إلا أن نخطئ في الأمور.
أو على الأقل هذا سيناريو واحد (مُشكك فيه) يجب أن نأخذ في الاعتبار.
مُجدّدًا، ليس من المفاجئ أن حتى فاينمان نفسه لم "يعرف ما تعنيه الرياضيات". قد يكون ذلك لأن الكلمات التي تعنيها الرياضيات لا معنى لها-تقريبًا-. على الأقل، هنا تلميح بأنه لا يمكننا تجاوز الرياضيات. ومع ذلك لا يزال العديد من الفلاسفة وعدد أقل منهم إلى حد ما من الفيزيائيين يعتقدون أن الرياضيات تأتي في المرتبة الثانية بعد شيء مختلف جداً ... وأكثر عمقًا.
جون جريبين
يبدو أن كاتب العلوم وعالم الفيزياء الفلكية البريطاني جون جريبين (1946-) يتفق مع هذه الاستنتاجات. ونتيجة لكثير مما قيل أعلاه، يمكن أن نستنتج أن كل الصور والصور المرسومة والاستعارات والتشبيهات وما إلى ذلك التي نجدها في المقولات الشائعة وحتى التفسيرات المختصة للعالم الكمي هي ببساطة (لاستخدام عبارة جريبين)
"الركائز لمساعدتنا على تخيل ما يجري على المستوى الكمي ولإعداد تنبؤات قابلة للاختبار".
في الواقع يعتقد جريبين أيضاً:
"أي من [تفسيرات ميكانيكا الكم] لا تعدو كونها سوى نموذج مفاهيمي مصمم لمساعدة فهمنا للظواهر الكمية".
يتحدث جريبين أيضًا عن تفسيرات ميكانيكا الكم:
"أؤكد أن كل هذه التفسيرات هي مجرد أساطير فهي ليست -أيا منها- " الحقيقة "الفريدة، بدلا من ذلك كلهم "حقيقيون " حتى عندما يختلفون مع بعضهم البعض ".
سيقرأ الكثيرون عبارات جريبين على أنها متطرفة للغاية او حتى انطوائية عندما يتعلق الأمر بميكانيكا الكم. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل ما سبق يعترف جريبين أيضًا بسعادة أن كل هؤلاء المفسرين الكميين يعتقدون حقًا أن تفسيراتهم الخاصة صحيحة. يكتب:
"سيخبرك المفسرون وأتباعهم أن تفسيرهم المفضل هو الإيمان الحقيقي الوحيد وأن كل من يتبع إيمان أخر هم زنادقة."
يأتي هذا النص مباشرة بعد أن أخبرنا جريبين:
" لا يوجد أي من هذه التفسيرات أفضل من أي تفسير آخر على مستوى المعادلات".
وبالتالي، منطقياً "لا يوجد تفسير أسوأ من أي من التفسيرات الأخرى من الناحية الرياضية". وعليه فإن كل هذا يتوقف على تحديداً الكيفية التي يُفترض بنا أن نأخذ بها العبارات "على مستوى المعادلات" و "من الناحية الرياضية".
يصبح جريبين أيضًا نفسيًا (أو جماليًا) للغاية عندما يختم (في نهاية أحد كتبه) أننا
" أحرار في اختيار أي من الآراء التي تمنحنا أقصى درجات الراحة وتجاهل الباقي".
قد تكون هناك حجة مفادها أن جميع تفسيرات ميكانيكا الكم غير ضرورية عندما يتعلق الأمر بالتنبؤات والاختبارات والتجارب والتكنولوجيا وغيرها، ومع ذلك، فإن هذا لا يعني بالتأكيد أن كل هذه التفسيرات "جيدة بالتساوي". قد تكون جميعها بنفس القدر من السوء بمعنى أنها لا تحدث أدنى فرق عندما يتعلق الأمر بالنظرية الرياضية والتنبؤات والتكنولوجيا (الكمية) وما إلى ذلك. ولكن هل تعتبر جميعها جيدة بنفس القدر في كل النواحي الأخرى حرفيًا؟
على الرغم من كل ما نقلناه من كلام جريبين أعلاه إلا أنه لا يزال يشدد على أهمية ما يسميه "النموذج المادي" "للمفاهيم الرياضية". يكتب (في كتابه "قطط شرودنغر والبحث عن الواقع" أن هنالك "مُسلمة قوية نافذة " تخبرنا بأن
"حرفياً كل نسخة من المفاهيم الرياضية لها نموذج فيزيائي في مكان ما، ويجب نصح الفيزيائي الذكي بالبحث بشكل عمد وروتيني ، كجزء من نشاطه ، عن نماذج فيزيائية للهياكل الرياضية التي تم اكتشافها بالفعل".
ولكن حتى في حالة جريبين وفي قراءة نهائية شبه فيثاغورية لا يزال من الواضح أن "المفهوم الرياضي" يأتي أولاً وبعد ذلك فقط يتم العثور على نموذج مادي يتوافق معه.
المصدر:
ترجمة:
عبدالكريم
علي ميرزا عيسى
"فيزيائي، وهاوي فلك"
مراجعة و تدقيق:
علي ميرزا عيسى
"فيزيائي، وهاوي فلك"
Comments