للإستماع للمقالة:
لطالما كان مركز الكون نقطة جدل بين العديد من العلماء و الفلاسفة ، كلا منهم حاول إثبات وجهة نظره، بدءًا بدعم فكرة عالم ما ،والدفاع عنه انتهاءًا بوضع المعادلات الرياضية ،و حساب المسافات بين الأجرام. لكن كلما وضعنا فرضية لمركز كوننا همس الكون في آذاننا قائلًا : (أنا في عملية تمدد حاولوا مرة أخرى!)
كرات نارية كمركز للكون !
قام العالم و الفيلسوف اليوناني فيلولاوس (390 ق م – 470 ) بوضع نموذجه لمركز الكون ، لكن المفاجأة كانت قوية وصادمة للبعض حيث انه لم يجعل لا الأرض ولا الشمس ولا أي جرم آخر مركزا للكون بل إدعى أنه هناك كرة نارية كبيرة تدور حولها الأجرام السماوية في 9 دوائر. وبحسب فيلولاوس تترتب الأجرام السماوية بدءًا من الخارج على نحو التالي : نجوم ثابتة ، الكواكب الخمسة ، الشمس ، القمر ،و الأرض . وبما أن فيلولاوس كان يعتبر من أتباع الفيثاغورسيين اللذين كانو يبجلون الرقم 10 ، أضاف جسما أخيرًا وهو الأقرب لهذه الكرات النارية وهي الأرض المضادة الغامضة. كان هذا النموذج يوضح أن النار المركزية تقع في المركز ،وأن الأجرام السماوية تدور حولها في عشرة دوائر من الغرب إلى الشرق، وأن النجوم ثابتة كخلفية تتحرك عليها الأجرام السماوية الاخرى فيما أن حركة الأرض هي المسؤولة عن الحركة اليومية للشمس عبر السماء وبالتالي ينتج عقب ذلك تعاقب الليل والنهار ، وأضاف أيضًا ان النهار يحدث عندما تواجه الأرض الشمس ،لكن عندما تبتعد الأرض عنها وهي في حركة حول النار المركزية فيحدث الليل .
نقاشات حادة حول النار المركزية:
اعترض الكثير عن نظام فيلولاوس ، فالبعض رأو أنه يجب أن يكون 11 دائرة ،ويقصد بذلك إن حسبت النيران المركزية ، لكن تبين في ما بعد أنه لا يمكن اعتبار النار المركزية واحدة من الأجسام المرتبة . وهناك من قال أن نظامه مجرد خيال و ليس له علاقة بعلم الفلك التجريبي ويرجع ذلك إلى اعتقاده أن القمر يحوي بعض المخلوقات التي تعتبر أقوى من المخلوقات على سطح الارض . ولجأ البعض إلى القول أن نظام فيلولاوس نظام ذو أهمية أسطورية و دينية . لكن بغض النظر عن النقاشات و آراء العلماء و الفلاسفة ، إلا أن نظام فيلولاوس كان بمثابة مساهمة رائعة في علم الكونيات ما قبل السقراطية ، واستمر النظام لعقود بل وقد يصل إلى مدة تزيد عن الألف عام.
ما قبل السقراطية:
ظهرت فلسفة ماقبل السقراطية أو المعروفة باسم اخر ( الفلسفة اليونانية المبكرة ) في القرن السادس قبل الميلاد على أيدي بعض من الفلاسفة و المفكرين اليونانيين من أشهرهم طاليس ، اناكسيمندر و الابرون وهي فلسفة يونانية قديمة قبل سقراط (470 قبل الميلاد – 399 قبل الميلاد ) . انتشر هذا المصطلح من قبل مختص ألماني في الفلسفة اليونانية هيرمان ديلز في القرن الثامن عشر. وضح هذا المصطلح اختلاف الاهتمامات بين فلاسفة ماقبل السقراطية الذين اتجهوا إلى دراسة بنية الطبيعة و الكون و سقراط واتباعه الذين كانو في الغالب مهتمين بالاخلاق والسياسة.
مرحلة بزوغ مركزية الأرض:
كان الفلكيون الأقدمون يعتقدون أن الأرض مسطحة وأنها مركز الكون. دعمت ملاحظتان أن الأرض هي مركز الكون، الأولى: بالنسبة لعلماء الفلك القدماء فإن الكواكب والنجوم تدور حول الأرض يوميا. الثانية: تتمثل في أن من منظور المراقب الأرضي لا يبدو أن الأرض تتحرك لذلك تم اعتبار الأرض على أنها نقطة ثابتة في الفضاء الفسيح.
لكن بعدها تم دمج فكرة نموذج مركزية الأرض بكروية الأرض حيث أصبحت حقيقة مقبولة في القرن الثالث قبل الميلاد بعدما كانت مسطحة لفترة طويلة من الزمن.
بطليموس يتدخل:
لم توحد الأفكار والتفاصيل و المعلومات إلا بعدما ظهر العالم اليوناني الاصل كلوديوس بطليموس (100 م – 170 م) في القرن الثاني ومعه مفاجأة ،والتي كانت تتمثل في نشر أطروحته. عندها نشر بطليموس نموذجه وهو أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس والكواكب والقمر تدور حول الأرض في أفلاك دائرية الشكل. أما النجوم فاعتبرت ثابتة في مكانها على كرة خارجية.
النظام البطلمي :
بحسب النظام البطلمي، تتحرك جميع الكواكب من خلال نظام يحتوي على مدارين على الأقل. الأول يطلق عليه "ناقل"، والمدارات الأخرى يطلق عليها "فلك التدوير".
- بالنسبة للناقل: فهو عبارة عن دائرة تحتوي على نقطة مركزية في منتصف الطريق بين الإكوانت (معدل المسار، و هو نقطة وضعت من قبل العالم بطليموس وذلك من أجل حساب حركة الأجرام السماوية) والأرض، ويشار إليها بالعلامة إكس حيث تكون الإكوانت هي النقطة الصلبة المقابلة للأرض.
- أما عن فلك التدوير: فهو مضمن في الناقل، ويشار إلية بالخط الأصغر المتقطع. بالتالي، هو يعبر عن أي كوكب يتحرك عبر فلك التدوير حول المسار الذي يميزة الناقل.
تلاشي نموذج مركزية الأرض:
بقي هذا النظام سائدا في العوالم الأوروبية و الإسلامية والرومانية لأكثر من ألف عام إلا أن النموذج لم يكن يستند إلى المعايير الحديثة. لكن وعلى الرغم من ذلك استخدم هذا النموذج في إعداد المخططات الفلكية وفي العلوم الفلكية ل1500 عام، إلى أن بدأ في التلاشي شيئًا فشيئًا لتحل مركزية الشمس موضعه.
النبأ بمركزية الشمس منذ القرن الثالث قبل الميلاد!
في كل مرة تسمع فيها نموذج مركزية الشمس تقوم بشكل لا إرادي بالتفكير في نيكولاس كوبرنيكوس العالم البولندي (1437 م – 1543 م) الذي أحدث ثورة علمية لم يسبق لها مثيل. لكن هناك علماء تحدثوا عن مركزية الشمس من قبل ووضعوا نماذج ، من أشهرهم العالم الفلكي اليوناني ارسطرخس الساموسي (310 ق م – 230 ق م ) ،وهو أول من قام بوضع نموذج لمركزية الشمس في القرن الثالث قبل الميلاد وأضاف أن الكون أكبر بكثير مما نتصوره ،وأن النجوم تشبه نظام شمسنا. وإدرك أن شمسنا أكبر من الارض والكواكب ليستنتج في ما بعد أن الكواكب هي التي تدور حول الشمس، وقام بتقدير أحجام كل من الأرض والشمس وتقدير المسافات بين الأرض والقمر والشمس ،والعديد من التفاصيل، بالرغم من فرضياته إلا أن الوقت والعصر الذي كان فيه لم يساعده، حيث أن مركزية الأرض ألقت بسيطرتها على عقول معظم العلماء و الفلاسفة.
لم يكن ارسطرخس وحيدًا، بل كان هناك أيضًا عالمًا عربيًا مسلمًا من العصر الذهبي الإسلامي، العالم الحسن بن الهيثم (965 م – 1040 م ) ،حيث شكك هذا العالم العربي في العديد من أعمال بطليموس بسبب عثوره على بعض التناقضات في أعماله . ووجه إليه الانتقادات بسبب اتكاله في بعض الأحيان على الحدس لا على التجارب العلمية.
مركزية الشمس:
بعد قرون و لفترة طويلة من الزمن مرت على الاستمرار وتبني أن الأرض هي مركز الكون ،وبعد كل التناقضات الذي كان يحمله نموذج مركزية الأرض، قام العالم الرياضياتي الفلكي نيكولاس كوبيرنكوس (1473 م – 1543 م) بإحداث ثورة علمية عبر نشره لكاتبه الذي يشرح بالتفصيل عن المبادئ والمعايير التي ساعدته في بناء نموذجه. لم ينشر كوبرنيكوس هذا الكتاب إلا قبل مماته بعام فقط !
قد يبدو الأمر صادمًا للبعض، لكن لم يستطع كوبرنيكوس بنشر نموذجه خوفًا من رجال الدين لأن نموذجه كان يتعارض مع الكتاب المقدس،و لم يكن هذا العائق هو الشيء الوحيد بل كان خائفا أيضًا من العيوب التي قد يجدها العلماء في عمله. في الواقع لقد ناقش كوبرنيكوس نموذجه مع أصدقائه المقربين و القليل من العلماء وكان هناك من يشجععه لنشره و العديد أعجبوا بعمله. حسم كوبرنيكوس الأمر من خلال نشره لكتابه (حول ثورة الكرات السماوية) في القرن 16 وذلك قبل عام بوفاته.
الثورة العلمية:
غير كوبرنيكوس نظرتنا حول الكون وأحدث ثورة علمية كبيرة ، ليأتي من بعده جاليليو ويكتشف أربعة من أقمار المشتري و قام بإثبات خطأ نظرية الحركة لأرسطو ،ودافع بقوة عن مركزية الشمس عبر أسس فيزيائية. وقام العالم الألماني يوهاني كيبلر (1571 م – 1630 م ) بوضع قوانين لحركة الكواكب وكان من أحد المؤمنين بنظام كوبرنيكوس ( مركزية الشمس ). لقد خلفت هذه الثورة العديد من الإكتشافات القيمة والتي طورت من العلوم وجعلت فهم ماهية هذا الكون أوضح.
الرؤية بدات تتضح:
عام 1920 ،وقعت مناظرة كبرى بين هيبر كورتيس وهارلو شابلي، موضوعها حجم الكون . التي انتهت بعدم قبول أيهم لفكرة الآخر . حتى وضع ادوين هابل في عام 1924 النهاية ، وهي أن الكون اكبر بكثير من درب التبانة. وأدى اكتشاف المجرات الأخرى وتطور نظرية الإنفجار العظيم على يد فريدمان، إلى تطور نماذج فلكية لكون متجانس ومتناظر الخواص، يفتقر إلى نقطة مركزية ويتوسع في جميع النقاط. كما أكد هذا 33 من كبار علماء الفيزياء في العالم .
بعد كل هذه التطورات والثورات العلمية لا زال كوننا يفتقر إلى مركز ،فهل سنتمكن من تحديد مركزًا لكوننا في القرون القادمة ؟ أم أنه من الصعب لأننا لا زلنا لم نتوصل إلى المفاهيم العلمية والتكنولوجيا الكافية ؟
كوننا مليء بالألغاز و الغموض وكلما اقتربنا لفهم طبيعته جعل من سؤالنا اسئلة! كلما تقدم العلم تطورت أفكارنا ،وكلما تطورت أفكارنا تطورت تصوراتنا و نظريتنا و إدراكنا للكون،ولكن كل مانعرفه حتى الآن هو أن الرحلة مازالت طويلة.
1- Philolaus (Stanford Encyclopedia of Philosophy)
Link
2- What is the heliocentric model of the universe?
3- Heliocentrism - Wikipedia
كتابة:
هاجر احمد محمد مجيدي
"طالبة في المرحلة الثانوية علوم الفلك يتربع على راس قائمة اهتماماتي، ولدي اهتمامات اخرى كالفيزياء ، الرياضيات ، الرسم وكتابة القصص . "
هيا محمد غانم
"طالبة في المرحلة الثانوية ، اهتم فالفلك و الفيزياء ، وما تركه الاجداد من التراث . اهوى الرسم بالذات الشخصيات الملهمه . التصوير و كتابة القصص القصيره من اهتماماتي ايضاً ."
مراجعة و تدقيق:
مريم جواد العريبي
"طالبة بكالوريوس صيدلة ،مهتمة في البحوث العلمية وقضية الماء والزراعة"